وهذه الأنفس عينُها، الخاضعة لنواميس الحياة، لا تعلم أيضًا مَوعدَ رحيلِها من دُنياها، ونهاية وجودها بالموتِ مكانًا وزمانًا، لأنَّها أمور لا تخضع أيضًا لسُننٍ كونيَّةٍ مَعهودة ثابتة، وهذا المَعنيُّ بقول الله تعا لى الوارد في الحديث:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}.
ثمَّ هذه الأمشاج الَّتي يُخلق بها الإنسان، تنتقلُ في أرحامِ النِّساءِ مِن طَورٍ إلى طَور، في ظلمات ثلاث، بعد أن أصبحت مَرئيَّة مَشهودة، بهيئاتها الكُليَّة، وتفاصيلها الجزئيَّة، يبقى مصيرُها وتمامُ تخليقِها خلالَ هذه الأطوار مَجهولًا:
أيتِمُّ تخليقُ هذا الإنسان، فيُنفخ بالرُّوح، ويصرخ خارجًا من بطنِ أمِّه بزغاريد الحياة؟ أم يسقط، وتَتلاشى أطوارُه في أغوارِ الرَّحم؟!
إنَّ العِلمَ بمستقبلِ الأجنَّة المبكِّرة في أطوارِها الصَّحيحةِ أو شبهِ الصَّحيحة، هل هي هالكة أم مخلَّقة؟ هل يَغيض الرَّحم بها، أم ينشأ منها إنسان جديد تُنفخ فيه الرُّوح، ويزداد به الرَّحم؟ .. كلُّ هذا ممَّا اختصَّ به الخالق سبحانه.
والمَعنى أنَّ ما سيحدث في عالم الحيوان مِن التَّكوين في المستقبل هو مِن خزائن الغيب الَّتي لا يحيط بما فيها إلَّا هو، وهو الغيب المستقبليُّ المحجوب عن عِلمِ البشر، الَّذي لا يخضع لسُنَن مشهودة مُطَّردة، بل علمه خاضعٌ لسُنَن غيبيَّة لا يعلمها إلَّا الله تعالى، فهذا المَعنيُّ بقول النَّبي صلى الله عليه وسلم:«ولا يَعلم ما تغيض الأرحام إلَّا الله .. »، كما أسلفنا تقريره.
والحاصل: أنَّه مادام أنَّ مُستقبل هذه الأشياء الخمسة ومَصيرَها لا يخضع لسُنَن الشَّهادة ونواميس الحياة، فإنَّه يَستحيل على البَشَرِ العلمُ بتفاصيلِها عِلمًا يُدرك بيقين، لا بظنٍّ أو تخمين.
ولقد تحدَّى الله النَّاس بها في كتابه وعلى لسانِ نبيِّه، في زمنٍ سادت فيه الكَهانة، والعرافة، والتَّنجيم، والسِّحر، ومع ذلك عجزوا، ولا يزال هذا التَّحدي ساريًا عبر القرون، حتَّى اكتشف الإنسان في هذا العصر -بما أذن الله به- بعضًا من سُنَنِه في الكونِ، ممَّا كان يجهله في حياته الدُّنيا؛ وهو مع هذا العلم عاجزٌ أن يدرك بيقينٍ هذه المغيَّبات الخمس، مع توفُّر مقدِّمات لها مِن جنسِها.