فهذا القسم خارجٌ عن نطاق الغيب المطلق الَّذي لا يعلمه إلَّا الله، بل معرفة المستقبل فيه متاحة للخلقِ.
الثَّاني: العلم بمستقبلِ الأشياءِ المَعدومةِ الَّتي لم تُوجد بعدُ في عالم الشَّهادة، هل ستوجد أم لا؟ فهذا القسم غَيْبٌ مُطلق، لا خلاف عند العقلاء أنَّ علمه عند الله تعالى وحده، فيستحيل على الخلقِ أن يعلموا منه شيئًا، لأنَّ أصلَه ومستقبلَه غير خاضعٍ لأيِّ سُنَّة كونيَّة معهودة، لانعدام وجوده من الأصلِ.
الثَّالث: العلم بمستقبلِ أشياءٍ هي موجودة في عالم الشَّهادة، تخضع في وجودها لسُنَن الكون، لكن لا يخضعُ مستقبلُها لسُننٍ مَشهودة: فهذا هو القسم الَّذي يَتَجلَّى في مفاتح الغيب الخمس!
وبيانُ هذه من الحديث: أنَّ هذه الدُّنيا المشهودة، لا يقدر أحدٌ أن يعلمَ زمنَ انتهائِها وزوالها، مع وجود علاماتٍ تدلُّ على قُربها بدلالةِ الشَّرعِ، فهو مُستقبل محظورٌ على الخلقِ معرفتُه، وهذا المَعنيُّ في الحديث بقولِه:«ولا يَعلمُ متى تقوم السَّاعة إلَّا الله .. ».
وهذه السُّحب الَّتي تغطِّي غلافَ الأرضِ، تُخلَق وفقَ سُنن الله تعالى الَّتي أودعها في الأرضِ والسَّماء على آناء اللَّيل والَّنهار، لا يقدِر مخلوقٌ أن يعلمَ يقينًا مُستقبلَ حركتِها، وأحجامها، ووقت نِتاجها مِن قبل أن يكتملَ تكوُّنها، وتنعقدَ أسباب إمطارها، لأنَّها لا تخضع لسُنَنٍ مشاهدةٍ مُطَّردة ثابتة، فهو بهذا في علمِ الله تعالى وحدَه، وهذا المَعنيُّ في الحديث بقول النَّبي صلى الله عليه وسلم:«ولا يعلم متى يأتي المطرُ أحد إلَّا الله .. ».
ثمَّ هذه الأنفس الَّتي تملأ الأرض ضَجيجًا وسعيًا في رزقِها وهنائِها، لا تعلم يقينًا كسبَها من خيرٍ أو شرٍّ، وما سيجري لها مِن حوادث، مع كدِّها وحرصِها على ذلك، فمستقبلُ كسبِها محجوبٌ عنها، ولو في الزَّمن القريب، إذ لا يخضع لسُنَنٍ مَعلومة محدَّدة، وهذا المَعنيُّ بقول الله تعالى الوارد في الحديث:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً}.