وعلى هذا يتحرَّر الغيب الحقيقيُّ في (الغَيض) بكونه: علمًا بمستقبل حياة الأجنَّة وهلاكها، أو علمًا بسقط الجنين قبل أن يتمَّ خلقه، أو بالعلم بمستقبل تطوُّر مراحل خلق الجنين الأولى، من النُّطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى إنشاء الخلق الإنسانيِّ بعد نفخ الرُّوح فيه، إذ يستحيل على العلماء حاضرًا أو في المستقبل معرفة مصير أيِّ طَوْرٍ من أطوار الجنين قبل اكتمال تخليقِه ونفخ الرُّوح فيه، هل سيتخلَّق إلى الطَّور الَّذي يليه، أم يهلك وتغيض به الأرحام، لأنَّ هذه المعرفة لا تخضع لسنن في الخلق مطَّردة، بل علم ذلك عند الله الخالق وحده.
وسؤال الملَك الموكَّل بالرَّحم ربَّه عز وجل عن مصير كلِّ طورٍ من أطوار الجنين الأوَّلي هل ستتخلَّق أم لا: لَخيرُ دليلٍ على هذا التَّقرير! فعن عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكَّل الله بالرَّحم ملَكًا، فيقول: أي ربِّ نطفة؟ أي ربِّ عَلقة؟ أي ربِّ مضغة؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: أي ربِّ أذكر أم أنثى؟ أشقيٌّ أم سعيد؟ فما الرِّزق، فما الأجل، فيُكتب كذلك في بطن أمِّه»(١).
مفاتح الغيب الخمس أمورٌ تَتعلَّق بالمستقبل:
فهذا المعنى الَّذي قرَّرناه من علمِ غَيْضِ الأرحام، والعلمِ بوقت نزول المطر: هو الَّذي يَتناسب مع باقي مَفاتح الغيب، حيث إنَّها تَتَعلَّق في أصلِها بأمورٍ مستقبليَّة، لا بماضيةٍ أو حاضرة من أمور عالم الشَّهادة.
ذلك أنَّ العلم بالمُستقبل ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأوَّل: العلم بمستقبلِ الأشياءِ الموجودةِ في عالم الشَّهادة، والخاضعة كليًّا للسُّنَن الكونيَّة: فهذه يُمكن العلمُ بمستقبلِ زمانِها مِن قِبَل العارفين بسُنَنِها، كمعرفة وقتِ طلوع الشَّمس وغروبها، ووقت الكسوف والخسوف وغير ذلك.
(١) أخرجه البخاري (ك: القدر، باب: في القدر، رقم: ٦٥٩٥)، ومسلم (ك: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، رقم: ٢٦٤٦).