للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعضِها وبعض، وصِلةً بين الفلسفة والدِّين، وصِلةً بين الفلسفةِ والأدبِ، فلو قُلنا: إنَّ المتكلِّمين كانوا مِن أظهرِ القائِمين بعمَليَّة المزج، لم نَبعُد عن الصَّواب» (١).

هذه العمليَّة في المَزجِ بَلغت مَداها حينَ أصبحَ غالبُ مادةِ الكلامِ مِن الفلسفةِ، مِمَّا أضْعف الانتهاضَ بنصوصِ الوَحي عند أربابِه، واشتدَّ الغلوُّ في العقلِ بسَقَطاتِه، و «لولا استشهادُ المُتكلِّمين أحيانًا بالأدلَّةِ السَّمعية، لما تَميَّزت مادةُ الكلامِ عن الفلسفةِ!» (٢).

فكان لهذا التَّحوُّل المَنهجيِّ في تلقِّي المَعارف عند فئامٍ من المُسلمين، الأثرُ البليغُ في تشكيلِ تَصوُّراتٍ خاطئةٍ عن دلالاتِ النُّصوص الشَّرعيَّة، وعن أخبار الآحادِ النَّبويَّة، إذ لم تصِر مُعوَّلهم في تأسيسِ العقائد وأصول الأحكام، وقد عادَ عليهم كلُّ هذا بالنَّقصِ في عباداتِهم، بل وحِدَّة أخلاقِهم.

وفي وصفِ هذه الحالةِ الانتقاليَّة من الارتياضِ في علوم الوَحيِ، إلى ارتشافِ المُتشرِّعين للعقلانيَّاتِ، ونأيِهم بالتَّدريج عن النَّقليَّاتِ، يقول ابن الجوزيُّ (ت ٥٩٧ هـ):

« .. ثمَّ نظَر إبليس، فرَأى في المسلمين قومًا فيهم فطنة، فأراهم أنَّ الوقوف على ظواهر الشَّريعة حالةٌ يُشاركهم فيها العوامُّ، فحسَّن لهم علومَ الكلام، وصاروا يحتجُّون بقول بُقراط وجَالينوس وفيثاغورس! وهؤلاء ليسوا بمُتشرِّعين، ولا تبعوا نبيَّنا صلى الله عليه وسلم؛ وإنَّما قالوا بمُقتضى ما سوَّلت لهم أنفسُهم.

وقد كان السَّلف إذا نَشأ لأحدِهم وَلدٌ؛ شغلوه بحفظِ القرآن وسماع الحديث، فيثبُت الإيمان في قلبه؛ فقد توانى النَّاس عن هذا، فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل، وينبذ أحاديثَ الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: أخبارُ آحاد! وأصحاب الحديث عندهم يُسمَّون: حشويَّةً! ويعتقد هؤلاء أنَّ العلم الدَّقيق علم


(١) «ضحى الإسلام» لأحمد أمين (١/ ٤٠٤).
(٢) «المدخل إلى دراسة علم الكلام» لـ د. حسن الشافعي (ص/١١٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>