للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تكثُر فيهم، ولم تشتهر بينهم، لما كان السَّلف يمنعون مِن الخوضِ فيها، ثمَّ اشتهرت في زَمَن البرمَكِيِّ (١)، ثمَّ قَوِي انتشارُها زمنَ المأمون (٢) لمِا أثارَه مِن البِدَع، وحَثَّ عليه مِن الاشتغالِ بعلومِ الأوائل، وإخماد السُّنة» (٣).

ولماَّ كانت أغلبُ قلوبِ المُستقبِلين لهذه المَعارفِ الفلسفيَّةِ الدَّخيلةِ خاليةً مِن نورِ القرآنِ والسُّنةِ، تمكَّنت فيها تلك الأفكار الوافِدة، وافتُتِنوا ببهرُجِها، فسَلَّموا لكثيرٍ مِن أصولِها في التَّفكير وقواعِدها في الاستدلال وأساليبِها في الحِجاجِ، ثمَّ استَوْلَدوا منها أصولًا مُفارقةً لِما دلَّت عليه القواطع الشَّرعيَّة.

وفي وصفِ حالِ هؤلاءِ مع الدَّلائل النَّقليَّة، يقول ابن تيميَّة:

«مِن المَعلوم أنَّ المُعظِّمين للفلسفةِ والكلام، المُعتقِدين لمضمونِهما، هم أبعدُ عن معرفةِ الحديثِ، وأبعدُ عن اتِّباعِه .. ، بل إذا كَشَفت أحوالَهم، وجدتَّهم مِن أجهلِ النَّاسِ بأقوالِه صلى الله عليه وسلم وأحوالِه، وبواطنِ أمورِه وظواهرِها، حتَّى لتجِدُ كثيرًا مِن العامَّة أعلمَ بذلك منهم، ولتجدهم لا يُميِّزون بين ما قاله الرَّسول وما لم يَقُله، بل قد لا يفرِّقون بين حديثٍ مُتواتر عنه، وحديثٍ مَكذوب مَوضوع عليه! وإنَّما يعتمدون في مُوافقتِه على ما يُوافق قولَهم، سواءً كان موضوعًا أو غير موضوع .. وهم لا يَعلمون مُراده صلى الله عليه وسلم، بل غالبُ هؤلاء لا يعلمون معاني القرآن، فضلًا عن الحديث! بل كثيرٌ منهم لا يحفظون القرآنَ أصلًا» (٤).

فكان أخطرَ ما بَدَأ به هذا السَّيلُ المُتمَعقِل في انجِرافِه: أنْ كَدَّر على النَّاس صفاءَ المنبعِ الإسلاميِّ، ولطَّخَ سَواقيَه بدَخَنِ الأديانِ الأخرى، صارَ معه المتكلِّمون -بتعبيرِ أحمد أمين- «صِلَةً لأشياء مُختلفةٍ: كانوا صِلةً بين الأديانِ


(١) هو أبو الفضل جعفر بن يحيى البرمكي، وزير الرشيد العباسي، قتله في مقدمة من نقل من البرامكة لما نقم منهم من الإفساد والظلم، توفي سنة ١٨٧ هـ، انظر «تاريخ بغداد» (٧/ ١٥٢).
(٢) عبد الله بن هارون الرشيد: هو الخليفة العبَّاسي، قرأ العلم والأدب والعقليات، ودعا إلى القول بخلق القرآن وبالغ، ولم ينل مقصوده، توفي سنة ٢١٨ هـ، انظر سير أعلام النبلاء (١٠/ ٢٧٢).
(٣) «صون المنطق والكلام» للسيوطي (ص/١٢).
(٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>