للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمكان الدَّجال وخروجه أمرٌ نَطَق به النَّبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً مِن عندِه حيث اجتَهد، ولا علاقة لتميمٍ رضي الله عنه به.

وعلى فرضِ أنَّ المكاشفة كانت لكلامِ تميم رضي الله عنه نفسِه؛ فإنَّ بطلان كلامِ المعترضِ في تضاعيف دعواه نفسِها! إذْ لَولا أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد أقرَّه على خبرِه، ما جَعَل بروزَ الدَّجال مِن بحرِ الشَّام أو بحر اليَمن، إذ هُما البَحْران المُتوَقَّع ضياع سَفينةِ تَميم فيهما، فظَنَّ النَّبي بمُقتضى كلامِ تميم رضي الله عنه أنَّ الدَّجال في هذين، فكان كالفرعِ مِن الأصل، حتَّى كاشفه الوَحي بخلافِ اجتهادِه هذا.

ثمَّ يُقال لـ (رشيد رضا): كيف للوحيِ أن يَتنزَّل على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ليُصحِّحَ له جِهةَ خروجِ الدَّجال، ثمَّ يسكتَ عن أكثرِ أباطيل القِصَّة لو كانت باطلة؟! فيتركَ النَّبيَ صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه يُصدِّقون هذا الباطلَ، بل ويُوثِّقون تميمًا رضي الله عنه صاحبَ القصَّة، ويأخذون عنه بعدُ الأخبارَ مِن غير ريبةٍ؟!

بل العقل الحصيف يفرض علينا القول بأنَّ إخبار النَّبي صلى الله عليه وسلم عن تميم الدَّاري مُصِدِّقًا له، لمِن أجلى الأمثلةِ على أنَّ ما تَلقَّاه الرَّسول بالقَبول مِن الأخبارِ مُوجبٌ للعلمِ (١).

هذا؛ وما كان لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم أن يُصدِّق دعاوي المنافقين هكذا بإطلاقٍ كما أفرطَ في دعواه (رشيد رضا)، وهو منه ذهولٌ عن قولِه تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: ٦١]؛ فإنَّه هو صلى الله عليه وسلم يُصدِّق كلامَ المؤمنين، ولا يصدِّق المنافقين وإن سمِع قولَهم (٢).

العجيب في هذا الادِّعاء من (رشيد)، أنَّه قد نَقَضَ شبهتَه هذه بنفسِه عند تفسيرِه لهذه الآية السَّابقة! حيث قرَّر عندها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم «كان يُعامل المنافقين بأحكامِ الشَّريعة وآدابها الَّتي يعامل بها عامَّة المسلمين، كما أمره الله تعالى ببناء


(١) انظر «مختصر الصواعق المرسلة» (ص/٥٥٦).
(٢) انظر «المحرر الوجيز» لابن عطية (٣/ ٥٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>