أولها: كي لا يزاحم المسلمون أهل الذمة والعهد في أرضهم، ويضيقوا عليهم في معيشتهم.
والأمر الثاني: كي لا يألف الجنود العمل في الأرض في إبان الفتح فتميل نفوسهم إلى الراحة من عناء الحرب، والأمة حربية لم يأن لها أطراح لأمة القتال واعتزال الحرب «١» .
الثالث: كي تبقى الأرض بيد أهلها مادة تستمد منها الدولة ما يقوم بشؤونها العسكرية والإدارية، ولا يحتكرها المقتطعون من الجند.
وفي العتبية؛ قال مالك عن يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب كان يقول: من كانت له أرض فليعمرها، ومن كان له مال فليصلحه فيوشك أن يأتي من لا يعطي إلا من أحب.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل: إنما أوصى بحفظ أموالهم بالقيام عليها مخافة أن يضيعوها اتكالا منهم علي أعطيات الإمام. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وهذا من إضاعة المال اهـ.
وقد وقع في المدونة والعتبية أنه كان بين رجلين من الصحابة خصومة في أرض لهما فركب عثمان أيام خلافته وركب معه رجال، فلما ساروا قال له رجل: إن عمر قد قضى فيه فقال عثمان: ما أنظر في أمر قضى فيه عمر فرجع.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل أيضا: وكانت الخصومة بين علي بن أبي طالب وطلحة في ضفير سد بفحة [كذا] من الوادي بين ضيعتهما، فوكل علي عبد الله بن جعفر فتنازعا فيه الخصومة بين يدي عثمان، فركب من الغد في المهاجرين والأنصار ثم رجع لما بلغه أن عمر كان ذلك في أيامه. فلما أخبر بذلك عبد الله بن جعفر عليا قال له قم الآن إلى طلحة فقل له: إن الضفير لك فاصنع به ما بدا لك، فأتيته فأخبرته فسر بذلك، ثم دعا بردائه ونعليه وقام معي حتى دخلنا على علي فرحب به وقال: الضفير لك فاصنع به ما بدا لك. فقال قد قبلت وبي حاجة فقال علي ما هي؟ قال طلحة: أحب أن تقبل الضيعة مني مع من فيها من الغلمان والدواب والآلة قال علي: قد قبلت قال: ففرح طلحة وتعانقا وتفرقا قال عبد الله: لا أدري أيهما أكرم أعلي إذ جاد بالضفير أم طلحة إذ جاد بالضيعة بعد ضنه بمسقاه؟ اهـ.
فهذا يدل على أن الحراثة كانت شائعة وبلغ الإهتمام بها إلى درجة الخصومة فيها من مثل علي وطلحة، وتوكيل علي ابن أخيه وخروج الخليفة في المهاجرين والأنصار للفصل فيها.
(١) هذا هو السبب في كراهة الزراعة للعرب الفاتحين فمهمتهم هي الحفاظ على البلاد المفتوحة والاستعداد الدائم للجهاد، وبالزراعة يتخلون عن واجبهم الذي كانوا يتقاضون عنه العطاء والله أعلم. مصححه.