الأغراض السافلة والمقاومة للكمال والكاملين، والتشبث بأذيال الناقصين والساقطين، سخطا على الفضيلة ومقاومة لها. وإذا كان الإمام حافظ الأندلس أبو محمد ابن حزم يقول في رسالته في المفاضلة بين علماء الأندلس وغيرهم: أما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر: أزهد الناس في العالم أهله. وقد قرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده. وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، وهم أوفر الناس أحلاما وأصحهم عقولا، وأشدهم تثبتا مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع، وتقديسهم بالحرم الجباه؛ حتى خصّ الله الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس، ولا سيما أندلسنا فإنها خصّت من حسد أهلها العالم الظاهر فيهم، الماهر منهم واستقلالهم كثير ما يأتي به، واستهجانهم ما يأتي من حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته بأضعاف ما في سائر البلدان؛ إن أجاد قالوا سارق مغير، وإن انتحل قذع وإن توسّط قالوا: غث بارد وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق، قالوا: متى كان هذا ومتى تعلم؟ وفي أي زمان قرأ ولأمّه الهبل. وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقتين إما شفوفا دائما يعليه على نظرائه، أو سلوكا في غير السبيل التي عاهدوها فهنالك حمي الوطيس على اليائس، وصار غرضا للأقوال وهدفا للمطالب، وعرضا للتطرق إلى عرضه، وربّما نحل ما لم يقل، وطوق ما لم يتقلد، وألحق به ما لم يفه به، ولا اعتقده قلبه، فإن لم يتعلق بالسلطان بحظ لا يسلم من المتالف، ولا ينجو من المخالف، فإن تعرض لتأليف غمز ولمز، وتعرض وهمز وسترت فضائله وهتف ونودي بما أغفل فتسكن لذلك همته، وتكل نفسه وتبرد حميته. الخ كلامه انظر بقيته في رسالته المثبوتة في نفح الطيب.
فليت شعري ما يقال بعد خراب الأندلس وضعف الإسلام في القرن الرابع عشر.
وجماع القول أن من جهل شيئا عاداه، والمزكوم لا يجد رائحة العطر بل يأباه، ويرحم الله أبا الثناء محمود بن عبد الله الألوسي البغدادي صاحب روح المعاني إذ يقول:
وإذا الفتى بلغ السماء بفضله ... كانت كأعداد النجوم عداه
ورموه عن حسد بكل كريهة ... لكنّهم لا ينقصون علاه
ولولا تفكري في أمر أبي الحسن الخزاعي، وأن ما أحياه من ماثر الأسلاف، وإن قضى عليه الزمن الأخير بالنكران، فقد قيضتني الأقدار، بعد أن مضى على موته نحو من ستمائة سنة بلا اختيار، لإحياء مراسمه والاهتبال، بمعالمه، والانفعال لعوامله في مثل ذلك الزمن والآتي مع غض الطرف عن هذا الذي نحن فيه وليس بمواتي، لكنت قد أضربت عن هذا العمل ونبذته وفارقته تماما وقاطعته، ولكن فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: ٨٩] فإلى المؤمنين بفضائل المعاصرين يجر الحديث وإلى من يؤمن بكرامة الموتى من الآتين نجتهد في بث ما علمناه ونسير السير الحثيث فإليكم