للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أهله كانوا يمشون حفاة، وإذا أكلوا مسحوا أيديهم في أقدامهم، خصوصا وقد وقعت لبعض الأعلام فلتات إن لم نقل سقطات وهفوات، حتى إن الولي ابن خالدون قال في مقدمة العبر في مواضع:

«إن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما نقلوه عن صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين، ولا رجعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين» . انظر ص ٤٧٧ من مقدمة تاريخه طبعة مصر ونحو هذه العبارات للأمير صديق حسن خان القنوجي في كتابه «الحطة في ذكر الصحاح الستة» من غير عزو لابن خالدون انظر ص ١١ منها.

ولكن من واصل ليله بنهاره، واطلع وطالع بالدقة وحسن الروية، يجد أن المدنية وأسباب الرقي الحقيقي، التي وصل إليها العصر النبوي الإسلامي في عشر سنوات، من حيث العلم والكتابة والتربية وقوة الجامعة وعظيم الاتحاد وتنشيط الناشئة، وما قدر عليه رجال ذلك العهد الطاهر، وما أتوه من الاعمال واستولوا عليه من الممالك، وما بثوا من حسن الدعوة وبليغ الحكمة ومتمكن الموعظة، لم تبلغها أمة من الأمم ولا دولة من الدول في مئات من السنين، بل جميع ما وجد من ذلك إلى هذا الحين عند سائر الأمم، كلها على مباني تلك الأسس الضخمة الإسلامية انتشأ. فلولا تلك الصروح الهائلة والعقول الكبيرة، وما بثوه من العلوم وقاموا به من الأعمال المخلدة الذكر، لما استطاعت المدنيات المحدثة أن تنهض لما له نهضت وارتقت.

أحدق ببصرك وبصيرتك إلى الدور الذي وجد فيه عليه السلام تجد أن الخراب والدمار والظلم كان أثبت في كل جهة من جهات العالم، من الشرق إلى الغرب. فدولة الروم هرمت مع الضعف الذي استولى على ملوكها؛ بمجاوزتهم الحد في الترف، والإنهماك في اللذات، والفتن الداخلية والخارجية، والأمة الفارسية سقطت قوتها بسبب حروبها الطويلة مع الروم مع الفتن الأهلية، والشعوب العربية في انحطاط تام وجهل عام. بين هذا الوسط نبعت تلك الشعلة النورية النبوية، فأضاءت دفعة [فجأة] من أول وهلة على العالم، فأحدثت فيه حركة ونهضة بعد العهد بمثلها في جهة من الجهات، أما في جميع أطراف العالم «١» التأمت تلك الشعلة واستفحلت وعرفت كيف تربي رجالا عظاما لنشر مباديها الحقة والقيام بالعالم من وهدة السقوط فأولئك الذين كانوا أنفسهم قبل الإسلام لا يعرفون من دنياهم إلا البارحة وتربية الماشية والعيش على أخس بداوة قد انقلبوا بعد الإسلام إلى قواد


(١) بياض بالأصل ويسحن وضع كلمة «ثم» .

<<  <  ج: ص:  >  >>