أَبُو الْعَبَّاس فَقيل للْمَرْأَة: إِن كنت صَادِقَة فِي رقعتك وَكَانَ من كتبهَا صَادِقا فَإِن زَوجك الْخَلِيفَة أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَتْ: مَا أَدْرِي صفوا لي صفة هَذَا الْخَلِيفَة، قَالُوا: غلامٌ حِين اتَّصل وَجهه، قَالَتْ: لَيْسَ هُوَ هُوَ، قيل: فاستري إِذَا أَمرك، وَلم يلبث أَبُو الْعَبَّاس أَن مَاتَ وَاسْتحق عِنْدهَا الْيَأْس، وَأَقْبل ابْنهَا عَلَى الْأَدَب فتأدب وظَرُفَ وَكتب ونزعت بِهِ همته إِلَى بَغْدَاد، فَدخل ديوَان أبي أَيُّوب كَاتب الْمَنْصُور، وَانْقطع إِلَى بَعْض أَهله فَأتى عَلَيْهِ زمَان يتقَّوت الْكتب ويتزيد فِي أدبه وفهمه وخطه، حَتَّى بلغ إِن صَار يكْتب بَيْنَ يَدي أبي أَيُّوب، إِلَى أَن تهَيَّأ أَن خرج خَادِم يَوْمَا إِلَى الدِّيوَان يطْلب كَاتبا يكْتب بَيْنَ يَدي الْمَنْصُور، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب للغلام: خُذْ دَوَاتَك وقم واكتب بَيْنَ يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَدخل الغلامُ فَكتب وَكَانَت تتهيأ من أبي جَعْفَر إِلَيْهِ النظرة بَعْدَ النظرة يتأمله، وألقيت عَلَيْهِ محبته واستجاد خطه واسترشق فهمه، فَلبث زَمَانا لَا يزَال الْخَادِم قَدْ خَرَجَ فيَقُولُ: يَا غُلَام خُذ دواتك وقم واكتب بَيْنَ يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ، واستراح أَبُو أَيُّوب إِلَى مَكَانَهُ، وَرَأى أَنَّهُ قَدْ حَمَل عَنْهُ ثقلا، وبرَّ الغلامَ وَوَصله وكساه كُسْوةً تصلح أَن يَدْخُل بهَا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثُمَّ إِن أَبَا جَعْفَر قَالَ للغلام يَوْمَا: مَا اسْمك؟ قَالَ: جَعْفَر، قَالَ: ابْن من؟ فَسكت متحيرًا، قَالَ: ابْن من وَيحك؟ قَالَ: ابْن عَبْد اللَّه قَالَ: فَأَيْنَ أَبوك؟ قَالَ: لَمْ أره وَلم أعرفهُ، وَلَكِن أُمِّي أَخْبَرتنِي أَن أبي شرِيف، وَأَن عِنْدَها رقْعَة بِخَطِّهِ فِيهَا نسبه، عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عليّ بْن عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب، فساعة ذَكَرَ الرقعة تغير وَجه الْمَنْصُور، فَقَالَ: وَأَيْنَ أمك؟ قَالَ: بالموصل، قَالَ: وَأَيْنَ تَنْزِلُونَ؟ قَالَ: فِي مَوضِع كَذَا، قَالَ: فتعرفُ فلَانا؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ إِمَام مَسْجِد مَحَلّتنا، قَالَ: أفتعرف فلَانا؟ قَالَ: نَعَمْ بَقّالٌ فِي سكتنا، فَلَمّا رَأَى الْغُلَام أَبَا جَعْفَر ينْزع بأسماء قَوْمٍ يعرفهُمْ أَدْرَكته هيبةٌ لَهُ، وجَزَع وتَدَمّعَ، فأدركت أَبَا جَعْفَر الرقة عَلَيْهِ فَلم يَتَمَالَك أَن قَالَ: فُلَانَة بِنْت فلَان من هِيَ مِنْك؟ قَالَ: أُمِّي، قَالَ: ففلانة؟ قَالَ: خَالَتِي، قَالَ: ففلان؟ قَالَ: خَالِي، فضمه إِلَيْهِ وَبكى، وَقَالَ: يَا غُلَام! لَا يعلمنّ أَبُو أَيُّوب وَلَا أحد من خَلْقٌ اللَّه تَعَالَى مَا دَار بيني وبنيك، انْظُر انْظُر احذر احذر، فَنَهَضَ الْغُلَام فَخرج، فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوب لَقَد احتبستَ عِنْدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: كتبتُ كتبا كَثِيرَة وأملّها عَلَي، قَالَ: فَأَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: جعلهَا نسخا يتردَّدُ فِيهَا حَتَّى يُحْكمها ثُمَّ تخرج إِلَى الدِّيوَان ثُمَّ إِن أَبَا جَعْفَر جعل يَقُولُ فِي بَعْض الْأَيَّام لأبي أَيُّوب: هَذَا الْغُلَام الَّذِي يكْتب بَيْنَ يَدي كيس فاستوص بِهِ، قَالَ: فاتّهم أَبُو أَيُّوب الْغُلَام أَنه يلقِي إِلَى أبي جَعْفَر الشَّيء بَعْدَ الشَّيء من خَبره، ثُمَّ لَمْ يلبث أَن سَأَلَهُ عَنْهُ مرّة بَعْدَ مرّة فقُذِف فِي قلب أبي أَيُّوب بُغْضُ الْغُلَام، وَأَنه يقوم مقَامه إِن فَقده أَبُو جَعْفَر، وَقذف فِي قلبه أَنَّهُ يسْعَى عَلَيْهِ وَأَنه يخرج أخباره، فَجعل إِذَا خَرَجَ الْخَادِم يطْلب كَاتبا بعث مَعَه غَيره وَأَبُو جَعْفَر يزْدَاد وَلها إِلَى الْغُلَام ويجن جنونًا وَلَيْسَ يمنعهُ من إدنائه وَإِظْهَار أمره إِلَّا لأمر يَريده، فَلَمّا رَأَى أنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute