فأبقى الدَّهْرُ والأيامُ منّي ... كَمَا أبقى من السيفِ الْيَمَانِيّ
تحسّر وَهُوَ مأثور جرازٌ ... إِذا جمعت لقائمه اليدانِ
وَقَالَ أَيْضا فِي طول عمره:
لبستُ أُناسًا فأفنيتهم ... وأفنيتُ بعد أناسٍ أُنَاسًا
ثلاثةَ أهلينِ أهلكتهم ... وَكَانَ الإلهُ هُوَ المستآسا
قَالَ أَبُو حاتِم، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَكَانَ النَّابِغَة مِمّن فكَّر فِي الْجَاهِلِيَّة فأنكرَ الْخمر وَالسكر وَمَا يفعلُ بِالْعقلِ، وتجنَّب الأزلامَ والأوثان، وَقَالَ قصيدته الَّتِي أَولهَا:
الحمدُ لله لَا شريك لَهُ ... مَنْ لَمْ يقلها فنفسهُ ظَلَما
وَكَانَ يذكر دين إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل صلَّى الله عَلَيْهِمَا، ويصومُ ويستغفرُ ويتوقى أَشْيَاء لعواقبها، ووفد عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ فِي ذَلِك:
لأتيت رَسُول الله إِذْ جَاءَ بِالْهدى ... وَيَتْلُو كتابا كالمجرَّة نيّرا
وجاهدتُ حَتَّى مَا أحسَّ وَمن معي ... سُهَيْلا إِذا مَا لَاحَ ثُمَّ تغوّرا
يَقُول: كنتُ بِالشَّام وسهيلٌ لَا يكادُ يُرى هُنَاكَ.
يقومُ على التَّقْوَى ويوصي بِفِعْلِهَا ... وَكَانَ من النّارِ المخوفةِ أوجرا
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ الأَشْدَقِ الْعَقِيلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّابِغَةَ يَقُولُ: أَنْشَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَجُدُودُنَا ... وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
فَقَالَ: أَيْنَ الْمَظْهَرُ يَا أَبَا لَيْلَى؟ قُلْتُ: الْجَنَّةُ، قَالَ: أَجَلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ قَوْلِي:
وَلا خَيْرَ فِي حلمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يكدَّرا
وَلا خَيْرَ فِي جهلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حليمٌ إِذَا مَا أَوْرَدَ الأَمْرَ أَصْدَرَا
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُفْضَضُ فُوكَ ". فَمَاتَ وَلَهُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ لَمْ يغيَّر لَهُ سِنٌّ.
استطراد فِي شرح شيف وَغَيرهَا
قَالَ القَاضِي: قَول النَّابِغَة فِي أَرض قيصرا ": معنى شِيفَ جُلي ومُسح حَتَّى أنارَ وصَفَا، كَمَا قَالَ عنترة:
وَلَقَد شربتُ من المدامة بَعْدَمَا ... ركد الهواجرُ بالمشوفِ الْمُعْلَمِ
يُقال للدينار وَالدِّرْهَم المجلوين: دِينَار مشوفٌ ودرهمٌ مشوف، ويُقال شافه يشوفه شوفًا كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
بأسحم ملتفَ الغدائرِ واردٍ ... وَذي أشرٍ تِشُوفُهُ وَتَشُوصُ
قَالَ القَاضِي: قَوْله " تشوفه " أَي تجلوه، والأُشُر: تَحْدِيد أَطْرَاف الْأَسْنَان ورقّتها. وَذكر أَن أَعْرَابِيًا أتَى بطفل لَمْ تنْبت أَسْنَانه فَجعل يقبّله وَيَقُول: وابأبي دُرْدُرك، فرأته امْرَأَته وَلم