وثناء الْحَيّ بعد المو ... ت للميِّتِ عمرُ
ولَعَمْري إِن الزَّمَان الَّذِي يُثْنَي فِيهِ عَلَى الْمَيِّت بَعْدَ مَوته أحسن عمريه وأطولهما وأشرفهما وأفضلهما، وَمِمَّا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى:
رَدَّتْ صنائعُهُ إِلَيْهِ حَيَاتَهُ ... فكأنّه من نشْرِها منشورُ
تَعْلِيق لغَوِيّ
قَوْله: فَكَأَنَّهُ من نشرها منشور، فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا فَكَأَنَّهُ من حَيَاة ذكره وَالثنَاء عَلَيْهِ حَيّ غي ميت، يُقَالُ: لفُلَان ذكرٌ حيُّ إِذَا كَانَ باديًا غَيْر خامل، وَقد مَاتَ ذَكَرَ فلَان إِذَا انْقَطع، قَالَ أَبُو نُخَيْلة:
فأحييتَ لِي ذكري وَمَا كنتُ خَامِلا ... ولكنَّ بَعْض الذِّكْرِ أَنْبَهَ مِنْ بَعْضِ
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون عني بنشرها رائحتها الطّيبَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
سُقيِتُ دَمًا إنْ لَمْ أَرُعْكِ بضرةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النّشْرِ
وَقَالَ المرقِّش الْأَكْبَر:
النّشْرِ مسكٌ والْوُجُوهُ دنانيرٌ ... وأطْرَافُ الأكُفِّ عَنَمْ
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
كأنَّ الْمُدَامَ وصَوْبَ الغمامِ ... ونَشْرَ الْخُزامَى ورِيحَ القطرْ
ويروى القَطَر، الْقطر: الْعُود الَّذِي يتبخر بِهِ، وَقيل للمجموعة الَّتِي تُوضَع فِيهَا لتتبخر بِهِ: مقطرة، اشتقاقًا مِنْهُ، قَالَ المرقِّشُ الْأَصْغَر:
فِي كلِّ مَمْشى لَهَا مِقْطَرَةٌ ... فِيهَا كبَاءٌ مُعَدٌّ وحَمِيم
الْكِبَاء مَمْدُود: الْعود وَقيل: مَا يُتبخر بِهِ، والكبا مَقْصُور المزبلة، وَقَوله: منشور فِيهِ وَجْهَان، أَحدهمَا: أَن يكون مَعْنَاهُ النشر الْمُقَابل للطيِّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
طوى الموتُ مَا بيني وَبَين محمدٍ ... وَلَيْسَ لما تَطْوي المنيةُ ناشرُ
فَجعل مَوته بِمَنْزِلَة ثوب أَوْ غَيره طُوِي مَا كَانَ مِنْهُ ظَاهرا وخفي، وَقد قَالَ الشَّاعِر:
فَإِن أظهرُوا خيرا فجَاء بِمِثْلِهِ ... وَإِن هُمُ طَوَوْا عَنْكَ الحديثَ فَلا تَسَلْ
وَقَالَ بَعْض الْمُحدثين:
فَإِن يَكُ هَذَا مِنْك جِدّا فإنني ... مُدَاوِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ بالهجرِ
ومنصرفٌ عَنْكَ انْصِرَافَ ابنِ حرةٍ ... طَوَى وُدَّهُ والطَيُّ أَبْقَى عَلَى النشرِ
قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة - وَقد روى لَنَا عَمَّن تَقَدَّمَ بِزَمَان طَوِيل:
طَوَتْكَ خُطُوبُ دهرك بَعْدَ نشرٍ ... كَذَاك خُطُوبُهُ نَشْرًا وَطَيًّا
وَيُقَال للْحَدِيث إِذَا اشْتهر واستفاض وتفرق: انْتَشَر.