للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذَا القرنين مَا أَنْت صانعٌ. فَقَالَ لَهُ ذُو القرنين: هَلْ لَك فِي صحبتي فأتّخذ ك أَخا ووزيرًا وشريكًا فِيمَا آتَانِي الله من هَذَا المَال؟ قَالَ: مَا أصلحُ أَنا وَأَنت فِي مَكَان وَلَا أَن نَكُون جَميعًا. قَالَ ذُو القرنين: ولِمَ؟ قَالَ: من أجل أنّ النّاس كلهم لَك عَدو ولي صديق، قَالَ: وَلم ذَاك؟ قَالَ: يعادونك لِما فِي يدك من الْملك وَالْمَال وَالدُّنْيَا، وَلَا أجدُ أحدا يُعاديني لرفضي لذَلِك وَلما عِنْدِي من الْحَاجة وقلَّة الشَّيْء، فَانْصَرف عَنْهُ ذُو القرنين.

قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا إِذا اعْتَبرهُ ذُو اللُّبِّ وفكر فِيهِ وتأملّه أدَّاه بِتَوْفِيق الله جلّ وعزّ إِلَى الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَة فِي الْآخِرَة. وَلِذِي القرنين عندنَا فِي هَذَا الْمَعْنى أخبارٌ تَأتي متفرّقة فِيمَا يَأْتِي من مجَالِس هَذَا الْكتاب إِن شَاءَ الله.

جود أبي دلف وجود أبي البخْترِي

حدَّثنا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد النحويّ قَالَ: أَنْشدني ابْن أبي دلف قَول ابْن أبي فنن فِي أَبِيه أبي دلفٍ:

مَا لي وَمَا لَك قد كلفتني شططًا ... حمْلَ السلاحِ وقولَ الدّارعين قفِ

أمِن رجال المنايا خِلْتَني رجلا ... أُمسي وَأصْبح مشتاقًا إِلَى التَّلف

تسْعَى المنايا إِلَى غَيْرِي فأكرهها ... فَكيف أسْعَى إِلَيْهَا عاريَ الكتفِ

يَا هَلْ حسبت سوادَ اللَّيْل غيّرني ... وأنَّ روحيَ فِي جَنْبَيْ أبي دلفِ

قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ أَبُو دلف بِخَمْسِمِائَة دِينَار، فقلتُ لَهُ: هلا فعل أبوكَ كَمَا فعل أَبُو البخْترِي القَاضِي؟ قَالَ: وَمَا فعل؟ قلتُ: رُوِيَ لنا أَن رجلا باذّ الْهَيْئَة دخل على قومٍ وهم على شراب لَهُم فحطّوا مرتبته فِي الشَّرَاب فَقَالَ:

نبيذانِ فِي مجلسٍ واحدٍ ... لإيثار مثرٍ على مقترِ

وَلَو كنتُ تفعلُ ذَا فِي الطَّعَام ... لزمتَ قياسَك فِي الْمُسكر

وَلَو كنت تسلك سبل الْكِرَام ... سلكتَ سَبِيل أبي البخْترِي

تتبّع إخوانَه فِي الْبِلَاد ... فأغنى المقلَّ عَن المكثر

قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ أَبُو البخْترِي بِأَلف دِينَار.

قَالَ القَاضِي: وَفِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة قبل الْبَيْت الأول من هَذِه الأبيات:

تأمَّلْ قَبِيح الَّذِي جِئْته ... تَجده خُلُوفَ فمِ الأبخرِ

وَهَذَا من قَبِيح الهجاء وَفِيهِ مُبَالغَة فِي الذَّم عَجِيبَة. وأنشدنا فِي هَذَا الْمَعْنى.

رأيتُ نبيذين فِي مجلسٍ ... فَقلت لساقٍ لنا مَا السَّبب

فقالَ الَّذِي نحنُ فِي بيتِه ... يفضِّل قوما بسوءِ الأدبْ

<<  <   >  >>