الْمُؤْمِنِين! هَذَا أمرٌ تركتُه لِلَّهِ تَعَالَى ونويتُ أَلا أَفعلهُ بعد يَحْيَى بْن خَالِد، قَالَ: فألحّ فأبَتْ، فَقَالَ: يَا مَسْرُور! خُذْ مَقْرَعة وقِفْ عَلَى رَأسهَا فَإِن أبَتْ فاضربْ رَأسهَا أبدا، قَالَ: فَأَبَتْ، فضربتُها، حَتَّى تقطَّعَت السَّبْعَةُ أَخْمرة، فنظرتُ إِلَى شَعْرِها والدَّمُ قَدْ خرج من رَأسهَا، فَقَالَت: أفعل، ثُمّ تناولت الْعُودَ، فغنَّتْ:
لما رأيتُ الدِّيَارَ قَدْ دَرَسَتْ ... أيْقنتُ أَن النَّعِيمَ لَمْ يَعُدِ
قَالَ: فواللَّهِ مَا فرغتُ حَتَّى نظرت إِلَى دموع هَارُون عَلَى لحيته، ثُمّ قَالَ: انصرفي فَقَامَتْ من بَيْنَ يَدَيْهِ وَهِي تبْكي، فَقَالَ لي: يَا مسرور! الحقها بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَقل لَهَا: يَقُولُ لَك أَمِير الْمُؤْمِنِين: اصرفيها فِيمَا تحتاجين إِلَيْهِ، واجعليني فِي حلٍّ، فَقَالَت: يَا مسرور لَا حَاجَة لي فِيهَا، وَهُوَ فِي حلٍّ.
مَا أحسن الحقَّ!
حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ بعض أشياخه، عَنِ الْعَلاء بْن الْمنْهَال، قَالَ: أَتَى خاقانَ رجلٌ من غَنِيٍّ فِي وَفد أَتَوْهُ من الْعَرَب، وبوَجْهِ الرَّجُل ضربةٌ مُنكرَة، فَقَالَ لَهُ خاقانُ: أَيّ يوْم ضُربت هَذِهِ الضَّرْبَة؟ وَهُوَ يرى أَنَّهَا ضربةُ سَيْف، فَقَالَ الرَّجُل: ضَرَبَنِي فرسٌ لي، فَقَالَ خاقانُ: لَصِدْقُهُ أعجبُ لي مِمَّا ظننتُ، مَا أحسنَ الحقّ! فأضْعف لَهُ الْجَائِزَة.
كَيفَ تولى أَبُو الأحْوَص ولَايَة مصر
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق السّرّاج بنَيْسَابور، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُد بْن رُشَيْد، عَنِ الْهَيْثَم بْن عَدِيّ، قَالَ:
وَجه المهديُّ أَمِير الْمُؤْمِنِين إِلَى أَبِي الأحْوَص فأُقْدِم عَلَيْه ليوليِّه مصر وأعمالها، قَالَ: فَلَمَّا حضر عرض عَلَيْه ذَلِكَ فَامْتنعَ مِنْهُ امتناعًا شَدِيدا، فاغتاظ من ذَلِكَ الْمهْدي فهم بِضَرْب عُنقه، وَكَانَ بِحَضْرَة الْمهْدي مُحَمَّد بْن دَاوُد جليس خير، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! تمهل عَلَيْه ثَلَاثَة أَيَّام، فَفعل وَأمره بالانصراف، فَلَمَّا خرج من عِنْده اشْتَدَّ غيظه وقَالَ: أما ترى إِلَى هَذَا الشَّيْخ، قَدْ لبس خُفًّا أحمرَ وخُفَّا أسود ليوهمَ أَنَّهُ مُضْطَرب الْعقل! فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بْن دَاوُد الجليسُ الصَّالح: لَا تقل ذَلِكَ، لَعَلَّ الشَّيْخ أُخْرِج إِلَيْهِ مَا يَلْبَسُه فِي الظلمَة فَلم يعلم، فسَكَنَ.
وَمضى مُحَمَّد بْن دَاوُد إِلَى الشَّيْخ أَبِي الأحْوَص فألفاه متشكيًا يبكي، فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ: إنَّه خرج لي من الظلمَة خُفٌّ أَحْمَر وخُفٌّ أسود، فلبستها وَلَم أَعْلَم، فَلَمَّا خرجتُ من عِنْد أَمِير أَمِير الْمُؤْمِنِين جعل الصّبيان يصيحون وَيضْحَكُونَ، فَلَمَّا تبينتُ ذَلِكَ نزعتُ الْخُفَّيْنِ ومشيتُ حافيًا فلحقني وجعٌ عَظِيم فِي رجليَّ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بْن دَاوُد: إِن أَمِير الْمُؤْمِنِين وَقع لَهُ غَيْر هَذَا فثنَيْتهُ عَمَّا كَانَ وَقع لَهُ، فَإِذا حضرتَ عِنْده فإياك أَن تأبَى أَوْ تَمْتنع، فَمضى إِلَى الْمهْدي فعرَّفه ذَلِكَ فسكن غضبُه، وَاشْتَدَّ حرصه عَلَى تَقْلِيد أَبِي الأحْوَص.
فَلَمَّا حضر بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْيَوْم الرَّابِع دَعَا بسفطٍ فَأخْرج مِنْهُ كتابا فِيهِ عَهْدُهُ على مصر وأعمالها، ثمَّ دفع إِلَيْهِ كتابا ثَانِيًا إِلَى صَاحب الشرطة يَأْمُرهُ بالحضور مَجْلِسه وَألا يخلِّيَه، ثُمّ دفع إِلَيْهِ كتابا ثَالِثا، فَقَالَ: هَذَا تَبْيِين ٌ برزقك عَلَى الْعَامِل، وَهُوَ ألف دِينَار فِي كُلّ شهر، وَمِائَتَا دِينَار للمائدة، ثُمّ دَعَا بسفطٍ آخر فَأخْرج مِنْهُ ثيابًا وطِيبًا فَدفعهُ إِلَيْهِ، وَأمر لَهُ بثلثمائة دِينَار للنَّفَقَة، ثُمّ قَالَ لَهُ: الرزق تَأْخُذهُ معجلا هنيًّا تستعينُ بِهِ، وللمائدة مِائَتَا دِينَار وكُلِ الطَّيِّبَ لتُقَوِّي بِهِ نَفسك، وَلا تَمِل إِلَى شيءٍ بتَّةَ، لِأَن نَفسك غنية بالرزق، وَهَذِه الثلثمائة دِينَار تستعين بهَا عَلَى نَفَقَة الطَّرِيق، فَلَا تعترضن من أحد شَيْئا فتستحش مِنْهُ، وَهَذِه الثِّيَاب وَالطّيب تكون مَعَك، فَإِن - وعائذ بِاللَّه تَعَالَى - حدَّث حَادث عَلَيْك كَانَ هَذَا مُعّدًّا، فَانْظُر لنَفسك وأعزَّها فقد أعززناك وأمدَدْناك، وفَّقَك اللَّه تَعَالَى للصَّوَاب.
فَخرج أَبُو الأحْوَص إِلَى مصر فَحكم بهَا سِنِين كَثِيرَة فحَسُن أَثَره وحُمِدَ أمره.
مَا لهَذَا حَسَنَة وَلا لَكِ سَيِّئَة
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْمُغِيرَة، عَنْ هَارُون، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الْملك بْن عَبْد الْعَزِيز الْمَاجشون، قَالَ: كُنَّا نأتي الْمُغِيرَة بْن عَبْد الرَّحْمَن فَجَاءَهُ يَوْمًا مَوْلى لَهُ يُقَالُ لَهُ كُبَّة، وَكَانَ شَيخا كَبِيرا، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَة: يَا كُبَّة! بِاللَّه حَدَّثَنَا بعض مَا كَانَ فِي شبابك، فَقَالَ: نعم، دَخَلنَا مرّة بَيت مغنية أَنَا وَثَلَاثَة من مَزَّاحِي الْمَدِينَة، فغنت صَوتا، فَقَالَ لَهَا أحدهم: أسأَل اللَّه تَعَالَى أَلا يُنزل لي حَسَنَة إِلا كتبهَا لَك، ثُمّ غنت صَوتا آخر، فَقَالَ لَهَا الآخر مِنْهُم: بِأبي أَنْت، غَرَّك واللَّهِ، لَا واللَّه مَا لَهُ حَسَنَة، وَلَكِن أسأَل اللَّه تَعَالَى أَلا ينزل لَك سَيِّئَة إِلا كتبهَا عَليّ، ثُمّ غنت صَوتا آخر، فَقَالَ لَهَا الثَّالِث: غَرَّاك واللَّه، لَا واللَّه مَا لهَذَا حَسَنَة وَلا كرامةَ لَهُ، وَلا لَك سَيِّئَة، وَلَكِن أسألُ اللَّه تَعَالَى أَلا يخْرجك من الدُّنْيَا حَتَّى تريه أعمى يُقَاد.