يصارح الحَجَّاج بِرَأْيهِ فِي أَخِيهِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُريد، أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ عَمه، قَالَ: بَلغنِي أَن طاووساً كَانَ يَقُولُ: بَينا أَنَا جَالس مَعَ الحَجَّاج بِمَكَّة إِذْ مرّ رَجُلٌ يُلَبّي حول الْبَيْت، فَرفع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ، فَقَالَ الحَجَّاج: عليَّ بِالرجلِ، فأُتِي بِهِ، قَالَ: مِمَّن الرَّجُل؟ قَالَ: من الْمُسْلِمِين، فَقَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُك، قَالَ: فَعَمَّ سَأَلت، قَالَ: عَنِ الْبَلَد، قَالَ: من أَهْل الْيمن، قَالَ: كَيفَ تركتَ مُحَمَّد بْن يُوسُف؟ قَالَ: تركته عَظِيما جسيمًا، رَكَّابًا خَرَّاجًا ولاجًا، قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُك، قَالَ: فَعَمَّ سَأَلت؟ قَالَ: عَنْ سيرته؟ قَالَ: تركته ظَلُومًا غَشُومًا، مُطيعًا للمخلوق، عَاصِيا للخالق، قَالَ: فَمَا الَّذِي حملك عليَّ بِهَذَا فِيهِ، وَأَنت تعرف مَكَانَهُ مني؟ قَالَ: أتراه مَكَانَهُ مِنْك أعز بمكاني من اللَّه عَزَّ وَجَلّ وَأَنا قَاضِي دَيْنَهُ، ووافدُ بَيته، ومصدق نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، فَسكت الحَجَّاج فَمَا أحار جَوَابا، وَقَامَ الرَّجُل فَدخل الطّواف.
فاتَّبَعْتُه فَإِذا هُوَ فِي الْمُلْتزم، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بك، اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ لي فِي الْكَهْف إِلَى جُودِك، والرِّضا بضمانك، مندوحةً عَمَّن سواك الباخلين، وغِنًى عَمَّا فِي أَيدي الْمُسْتأْثِرِين، اللَّهُمَّ فَرَجَكَ الْقَرِيب، ومعروفَك الْقَدِيم، وعادتَك الْحَسَنَة، فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، رأيتُهُ وَاقِفًا عَلَى الْموقف فدنوتُ مِنْهُ، فَسَمعته يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِن كنتَ لَمْ تقبلْ حَجِّي وتَعَبِي ونَصَبِي، فَلَا تَحْرمَنِي الأجرَ عَلَى مصيبتي بِتَرْكِكَ القبولَ مني، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ غَدَاة جمعٍ أَفَاضَ مَعَ النّاس، فسمعتُه يَقُولُ: يَا سَوْءَتاهُ مِنْك يَا رب وَإِن غفرت.
ثمَّ لَمْ أره بعد ذَلِكَ.
[معنى المندوحة والمستأثرين]
قَالَ القَاضِي: قَوْله: مَنْدُوحة، المندوحة: السَّعَةُ والْفُسْحة، كَمَا قَالَ تَمِيم بن أبي مُقْبل:
سَرَّ عَامر قومِي وَمن يَكُ قَوْمُهُ ... كقومي يكنْ لَهُ بِهم مُنْتَدَح
يَعْنِي غُنْيةً ومُتَّسَعًا.
وَقَوله: عَمَّا فِي أَيدي المستأثرين، المستأثرون: هم الَّذين يستبِدُّون بِمَا فِي أَيْديهم، يُقَالُ: اسْتَأْثر فُلان بِمَا عِنْده أَيّ استبدَّ بِمَا فِي يَده وتَفَرَّد بِهِ، قَالَ أعشى بني قَيْس بْن ثَعْلَبَة:
تَمَزَّزْتُها غيرَ مستأثرٍ ... عَلَى الشّرْبِ أَوْ منكرٌ مَا عُلِمْ
ويروى:
غَيْر مستدبرٍ ... عَنِ الشّرْبِ
وَمن أَمْثَال الْعَرَب: إِذا اسْتأْثَر اللَّهُ بشيءٍ فَالْهُ عَنْهُ.
وَفِي الْخَبَر: " أَو اسْتأْثرتَ بِهِ فِي علم الغَيْب عنْدك ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute