وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ ... حَتَّى أُصِيبَ بِهِ كَرِيمَ الْمَأْكَلِ
قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحَدٌ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهُ مَا خَلا عَنْتَرَةَ.
عبسي شَدِيد التعصب لعنترة
حَدثنَا يزْدَاد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى، قَالَ حَدَّثَنَا القحذمي عَن عَمه عَن ابْن دأب قَالَ: جَاءَنِي أَعْرَابِي منعبس مَا رَأَيْت قطّ أَشد عصيبةً مِنْهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيد مَا شَيْء بَلغنِي عَنْك؟ قَالَ قلت: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: بَلغنِي أَنَّك تَقول إِن عنترة فقئت عينه قبل أَن يَمُوت، قَالَ قلت: نعم، قَالَ: وَمن فقأها؟ قَالَ قلت: غُلَام من بني قبال، قَالَ: عنْدك فِي ذَلِك شَاهد؟ قلت: نعم، قَالَ: فأنشدنيه، فَأَنْشَدته:
غزا ثُمَّ آب العَبْد خائب جده ... إِلَى ضخمة الْأُذُنَيْنِ والكف شهبره
فَبَاتَ إِلَيْهَا كاسرا شقّ عينه ... فَقَالَت لَهُ من عَار عَيْنك عنترة
فَقَالَ لَهَا لَا ضير إِن ملمة ... ألمت وَإِن الدَّهْر يقلب أعصره
وَإِن غُلَاما من قبالٍ أَصَابَهُم ... وَمَا كَانَ عَن كف القبالي أهدره
قَالَ فَقَالَ لي: أَمَعَك غير هَذَا؟ قَالَ قلت: نعم.
أما بَنو عبس فَإِن دعيهم ... ولت فوارسه وأفلت أعورا
سمع التذامر والتواصي بَينهم ... لَا يَفْلِتَنَّ العَبْد عنتر عنترا
قَالَ فَقَالَ لي: يَا أَبَا الْوَلِيد قد صَحَّ هَذَا عنْدك؟ قَالَ قلت: قد حدثتك الحَدِيث وأنشدتك الشّعْر، قَالَ: وَالله ماتفقت عينه فِي قَبره، كَيفَ تزْعم أَنَّهَا تفقت قبل مَوته؟!
تَعْلِيق على مَا جَاءَ فِي الْخَبَرَيْنِ السَّابِقين
قَالَ القَاضِي: قد روينَا عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غير هَذَا الطَّرِيق فِي ذكر عنترة محبته رُؤْيَة عنترة وَأَنه قَالَ: لَو أَدْرَكته نفعته؛ وَقَول الشَّاعِر إِلَى ضخمة الْأُذُنَيْنِ والكف شهبرة الشهبرة: الْعَجُوز المولية، وَيُقَال شهورة وينشد فِي هَذَا:
أم الْحُلَيْس لعجوز شهوره
وَجَاء فِي بعض الْأَخْبَار أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لزيد بْن حارثه لَا تتَزَوَّج خمْسا، فَذكر فِيهِنَّ الشهبرة. وَيُقَال أَيْضا عَجُوز شهربة وأنشدوا فِي هَذَا:
أم الْحُلَيْس لعجوز شهربه ... ترْضى من اللَّحْم بِعظم الرَّقَبَة
وَقَوله: وَمَا كَانَ عَن كف القبالي أهدره يُقَال أهْدر دم فلَان إِذا طل وَلم يثأر بِهِ وَأسْقط الْقصاص وَالْعقل عَنْهُ. وَقَول الشَّاعِر فِي الشّعْر الثَّانِي: لَا يَفْلِتَنَّ العَبْد عنتر عنترا فِيهِ إغراء بِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْك عنترة أَو اقْتُل عنترة، كَمَا تَقول: الطَّرِيق الطَّرِيق فأضمر الْفِعْل، وَمثله قَوْلك لمن رايته يضْرب رجلا أَو يتهيأ لضربه: رَأسه؛ وَهَذَا بَاب وَاسع مَعْرُوف فِي الْعَرَبيَّة يضمر الْفِعْل فِيهِ اكْتِفَاء بِمَا حضر أَو ظهر من الْأَحْوَال والأشياء الدَّالَّة على الْعَامِل