أخذت مِنْهُ وَقرب ليذبح أنشأ يَقُول:
وخيَّرني ذُو البؤسِ فِي يومِ بُؤْسِهِ ... خِصَالا أرى فِي كلّها الموتَ قد بَرقْ
كَمَا خيِّرت عادٌ من الدّهرِ مرَّةً ... سحائبَ مَا فِيهَا لذِي خيرةٍ أَنَقْ
سحائبُ ريحٍ لَمْ توكَّل ببلدةٍ ... فتتركها إِلَّا كَمَا لَيْلَة الطلقْ
فَأمر بِهِ ففُصد فلمّا مَاتَ طلي بدمه الغريّان.
تعليقات وشروح لغوية ونَحوية
قَالَ القَاضِي: قَول الشَّاعِر بخيري بني أَسد، وَالطَّرِيق اللاحب فِي هَذَا الْبَاب أَن يُقَال زيد خير من بني فلَان، والزيدان والزيدون خير بني فلَان، ولكنّه ثنَّى فِي هَذَا الشّعْر مُبَالغَة فِي وصف كلِّ مِنْهُمَا واحدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ منسوبٌ إِلَيْهِ الْفضل، أَو لِأَن كلَّ واحدٍ مِنْهُمَا يفضل فِي معنى يختصّ بِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
هما سيّدانا يزعمان وإنَّما ... يسوداننا أَنْ سيِّرت غَنَمَاهُمَا
فَثنى لاختلافِ النَّوْعَيْنِ وافتراق الإضافتين. وَفِي التَّنْزِيل: " أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا " " الْمُؤْمِنُونَ:٤٧ ". وَقَول الْمُنْذر لِعبيد أَلا كَانَ الذَّبِيح غيرَكَ أَرَادَ الشَّيْء الْمَذْبُوح قَالَ الله تَعَالَى " وَفَدَيْنَاهُ بذبحٍ عَظِيمٍ " " الصافات: ١٠٧ " والذَّبح بِفَتْح الذَّال الْمصدر. يُقال: ذبحت الكبشَ ذَبْحًا، وَمثله الطِّحن.
والطَّحن. فالطَّحن الشَّيْء المطحون والطَّحن مصدر وَكَذَلِكَ الْقِسم والقَسْم فالْقِسْم بِالْكَسْرِ النَّصِيب وَالشَّيْء الْمَقْسُوم، والقَسْمُ بِالْفَتْح مصدر قَسَمْتُ. وَهَذَا بَاب تَتّسع فروعه ويَطرد قِيَاسه. وَقَول عُبَيْد: " أتتك بحائن رِجْلَاهُ " يُقال فلَان حائن إِذا حَان هَلَاكه، هَذَا مثلٌ سَائِر. وَقَول الْمُنْذر: " أَو أجلٌ بلغَ إناه " معناهُ غَايَته ونِهَايته، من قولِهم قد آن كَذَا وَكَذَا، أَي بلغَ غَايَته، قَالَ الله تَعَالَى: " يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حميمٍ آنٍ " " الرَّحْمَن:٤٤ " أَي قد انْتهى حرّه، وَمن ذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
وتَخضب لحية غَدَرَتْ وخانَت ... بأحمرَ من نجيع الجوفِ آنِ
وَقَالَ الله تَعَالَى: " إِلَى طعامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ " " الْأَحْزَاب:٥٣ " وَفِيهِ لُغَتَانِ الْكسر وَالْقصر، وَالْفَتْح وَالْمدّ، وَقد قَرَأَ بعضُ الْقُرَّاء غيرَ ناظرين إناءَه " وَمن هَذِهِ اللُّغَة قَول الشَّاعِر:
وآنيت الْعشَاء إِلَى سهيلٍأو الشعرى فطالَ بيَ الإِنَاءُ ويروى " وأكريت.. فطال " من الْكرَى وَالْمعْنَى وَاحِد. وَقد قَرَأَ بعضُ الْقُرَّاء: " سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قطرٍ آن " يَعْنِي النّحاس الَّذِي قد انْتهى حرّه، وروى هَذَا بعضُ الروَاة عَن عَاصِم بن أبي النَّجود. فأمّا الْقِرَاءَة المستفيضة فِي الْأمة والسائرة بَين الْأَئِمَّة فَهِيَ: " من قطران ". وَمَا الجريض فَإِنَّهُ مُعالجة النَّفس لِلْخُرُوجِ، وأمّا قَول عُبَيْد: " فللموت مَا تلدُ الوالدة " فقد رُويت الأبياتُ الَّتِي هَذَا مِنْهَا على غير هَذِه الْأَلْفَاظ وَفِي غير هَذِه الْقِصَّة، وأنشدناها لغير عُبَيْد وَهِي:
لَا يُبْعِدِ الله ربُّ الْعباد ... وَالْملح مَا وَلَدَتْ خالَدَهْ
هم المطعمونَ سديفَ السَّنام ... والشحمَ فِي الليلةِ الباردهْ
فَأن يكن الموتُ أفناهُمُ ... فللموتِ مَا تلدُ الوالده
معنى قَوْله: " فللموت مَا تَلد الوالده " إِن مآل الْمَوْلُود إِلَى الْمَوْت، وَمن هَذَا قَول الشَّاعِر:
وللمنايا تربى كلُّ مرضعةٍ ... وللخرابِ يجدُّ الناسُ عمرانا
وَقَالَ آخر:
لدوا للموتِ وَابْنُوا للخرابِ ... فكلكمُ يصيرُ إِلَى ذهابِ
وَمن هَذَا النَّحْو قَول الله تَعَالَى: " فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عدوَّاً وَحَزَنًا " الْقَصَص:٨ " فهم وَإِن لَمْ يكن مآل أَمرهم مَعَه فِيمَا قصدوه وَلَا أرادوه بِمنزلة من ابْتِدَاء شَيْئا التماسًا لعاقبته فجَاء على تَقْدِيره وإرادته. ولِهذا الْمَعْنى نَظَائِر فِي الْعَرَبيَّة يُتْعِبُ إحصاؤها. والبصريون من النَّحْوِيين يسمون هَذِه اللَّام، وَإِن كَانَت على صُورَة لَام كي، لامَ الْعَاقِبَة ولامَ الصيرورة، لأنَّ عَاقِبَة الشَّيْء الْمَذْكُورَة انْتَهَت إِلَى مَا أخبر بِهِ وَصَارَت إِلَيْهِ، وَإِن لَمْ يكن مِمّا آثره الْفَاعِل وَلَا أَرَادَهُ، ويسمونها أَيْضا لَام الصيور. وأمّا الفراءُ فِي أَصْحَابه الْكُوفِيّين فيذهبونَ إِلَى أنَّها لامُ كي لمّا كَانَ المآلُ لَا محَالة انْتهى إِلَى مَا انْتهى إِلَيْهِ صَار بِمنزلة مَا ابتدى يُراد بِهِ مَا صَار إِلَيْهِ؛ ونظيرها أَن يسْقِي الرجل الرجل دَوَاء ليشفيه من دائه فيتلف، فَيُقَال سقَاهُ دَوَاء فَقتله، وسقاه ليَقْتُلهُ، أَي كَانَ بِمنزلة من قصد إِتْلَافه وَإِن كَارِهًا لِهذا غيرَ مختارٍ لَهُ. وَنَظِير هَذَا قَوْلهم أردْت نَفعه فضررته، لَا يريدونَ بِهذا أَنَّهُ قصد الْإِضْرَار بِهِ، وإنَّما أَرَادَ أَنَّهُ استضرَّ بِما أريدَ نَفعه بِهِ. وَمعنى قَول الْبَصرِيين والكوفيين فِي هَذَا مُتَقَارب إِذا تحقِّق معناهُ مصيبٌ فِي قَوْله. وَهَذَا بَاب مستقصى ملخَّصٌ مُسْتَوفى فِيمَا ألَّفناه من عُلُوم الْقُرْآن. وَلَيْلَة الطَلَقِ وَلَيْلَة القَرَبِ من اللَّيَالِي الَّتِي يُسْرَى فِيهَا إِلَى المَاء، وَلَيْسَ هَذَا موضعَ ترتيبها.
وهب يقْرَأ نقش حجر
حدَّثنا عبد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن إِدْرِيس قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا التَّيْمِيّ قَالَ: بَيْنَمَا سُلَيْمَان بن عبد الْملك فِي الْمَسْجِد الْحَرَام إِ أُتِيَ بحجرٍ منقورٍ فَطلب من يقرأه، فأُتي بوهب بن مُنَبّه فقرأه فَإِذا فِيهِ: ابْن آدم، إنَّك لَو أَبْصرت قَلِيل مَا بَقِي من أَجلك لزهدت فِي طول أملك، ولرغبتَ فِي