للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

استجازَ إِطْلَاق هَذَا النَّعْت على نَفسه، وَفِيهِ تزكيةٌ وتعظيم لَا يصف الألباء بِهَا أنفسهم، وَإِن كَانَت ثَابِتَة فيهم وَكَانَ النَّاس يضيفونها إِلَيْهِم ويثنون بِهَا عَلَيْهِم، قيل لَهُ: فِي هَذَا وَجْهَان، أَحدهمَا أَن يكون الكاتبُ أثْبته من قِبَلِ نَفسه وَلم يكن من أبي بكر رضوَان الله عَلَيْهِ ذكرٌ لَهُ، كَمَا يملُّ المملُّ شَيْئا على غَيره فيُجري فِيهِ ذكره فيصله الْكَاتِب بتقريظه وَالدُّعَاء لَهُ، وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون أَبُو بكر استجازَ هَذَا لِأَنَّهُ قد اشْتهر بِهِ واستفاض إلحاقُهُ بتسميته، أَلا ترى إِلَى قَول الشَّاعِر يعنيه:

سمِّيت صدّيقًا وكلّ مهَاجر ... سواك يسمَّى باسمه غير منكرِ

وَقَوله فِي الْخَبَر: " مَا نمت فحلمت " فَإِنَّهُ يُقال: حلم فِي نَومه، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:

حلمتُ بكم فِي نومتي فغضبتُم ... وَلَا ذنبَ لي أَنْ كنتُ فِي النّوم أحلُم

وحلم عَن خَصمه كَمَا قَالَ الآخر:

حلمتُ عَن السَّفِيه فظنَّ أنّي ... عييتُ عَن الجوابِ وَمَا عييتُ

وحَلُمَ الأديمُ إِذا فسد، كَمَا قَالَ الآخر:

فإنَّك والكتابَ إِلَى عليٍّ ... كدابغةٍ وَقَدْ حَلُمَ الأَدِيمُ

دُخُول عبد الْملك بن صالِح على جَعْفَر بن يَحْيَى

فِي مجْلِس منادمة

حدَّثنا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: كَانَ جَعْفَر بن يَحْيَى يَقُول لإخوانه: لَا يَشْغَلني عَنْكُم إِلَّا مَا يشغلني عَن نَفسِي، فَإِذا تخلَّيت من الْخدمَة فإليكم رَاجع، فإنَّ السُّلْطَان لَا يبْقى لي، وَأَنْتُم تَبْقَون لي مَا بقيت لكم. تَعَالَوْا نتفرَّج يَوْمنَا هَذَا، فنتضمّخ بالخَلُوقِ، ونلبس ثِيَاب الْحَرِير، ونفعل ونفعل. فَأَجَابَهُ إخوانه وصنعوا مَا صنع، وتقدَّم إِلَى حَاجِبه فِي حفظ الْبَاب إِلَّا من عبد الْملك بن بجران كَاتبه، فَوَقع فِي أُذُنِ الْحَاجِب عبد الْملك.

وَبلغ عبد الْملك بن صالِح مُقامُ جَعْفَر فِي منزله، فركبَ فَوجدَ الْحَاجِب عبد الْملك قد حضر، فَقَالَ: يُؤذنُ لَهُ وَهُوَ يظنّه ابْن بجران، فَدخل عبد الْملك فِي سوَاده ورصافيته، فلمّا رآهُ جَعْفَر اسودَّ وَجهه، وَكَانَ عبد الْملك لَا يشربُ النَّبِيذ، وَهُوَ كَانَ سَبَب مَوْجدة الرشيد عَلَيْهِ. فَوقف عبد الْملك ودعا غلامَهُ فَنَاوَلَهُ قلنسوته وسواده وَقَالَ: افعلوا بِنَا مَا فَعلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، فَفعل ودعا برطلٍ فَشرب وَقَالَ: جعلني الله فدَاك، وَالله مَا شربته قبل الْيَوْم فَإِن رَأَيْت أَن تَأمر بِالتَّخْفِيفِ لي، فَدَعَا برطليَّة فوُضعت بَين يَدَيْهِ، وَجعل كل مَا فعل من ذَلِك شَيْئا سرِّي عَن جَعْفَر، فلمَّا أَرَادَ الِانْصِرَاف قَالَ لَهُ جَعْفَر: سَل حَاجَتك مِمَّا تحيط بِهِ مقدرتي مُكَافَأَة لما صنعت. قَالَ: إِن فِي قلب أَمِير الْمُؤمنِينَ هنَةً فتسأله الرضى عني رضى صرفا، قَالَ: قد رَضِي عَنْك، قَالَ: عليَّ أَرْبَعَة آلَاف ألف دِرْهَم دينا فيقضيها عنّي، قَالَ: وَالله إنّها عِنْدِي لحاضرة وَلَكِن تقضى من مَال أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ أنبلُ لَك

<<  <   >  >>