للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من اعتذر إِلَيْكُم، أطع أَخَاك وَإِن عصاك، وصِلْهُ وَإِن جفاك، أنْصِف من نَفسك قبل أَن يُنتصف مِنْك، وَإِيَّاك ومشاورة النّساء، وَاعْلَم أَن كُفْرَ النِّعمة لُؤْم، وصُحبة الْجَاهِل شُؤْم، ومِن الْكَرم الْوَفَاء بالذِّمم، مَا أقبح القطيعةَ بعد الصِّلة، والجفاءَ بعد اللُّطُف، وأقبح العداوةَ بعد الود، لَا تكونن عَلَى الْإِسَاءَة أقوى مِنْك عَلَى الْإِحْسَان، وَلا إِلَى الْبُخْل أسْرع إِلَى البَذْل، وَأعلم أَن لَك من دنياك مَا أصلحت بِهِ مثواك، فأنْفِق فِي حقّ، وَلا تكونَنّ خَازِنًا لغيرك، وَإِذَا كَانَ الغَدْرُ فِي النّاس مَوْجُودا فالثقَة بِكُل أحدٍ عجز، أعْرف الحقَّ لمن عَرَفَه لَك، وَاعْلَم أَن قطيعة الْجَاهِل تعدلُ صلَة الْعَاقِل.

قَالَ: فَمَا رَأَيْت كلَاما أبلغ مِنْهُ. فَقُمْت وَقَدْ حفظته.

قَالَ القَاضِي: هَذَا لَعَمْري من أشرف الْكَلَام وأبلغه وَأحسنه، وأبلغ الخَطَّاب وأبينه، فرحم اللَّه أَبَا بَحر كَيفَ أَشَارَ بالرَّشَد، وَهدى إِلَى الْقَصْد، وَمَا فصل من فُصُول خطبَته هَذِهِ إِلا وَقَدْ وَردت الآثارُ بِمَا يؤيِّده، مَعَ مَا فِي الْعُقُول مِمّا يدعُو إِلَيْهِ ويؤكده، ومجالسنا هَذِهِ تَتَضَمَّن كثيرا مِمَّا ورد فِي مَعْنَاهُ، إِن شَاءَ اللَّه، وأيَّد بعونه وتوفيقه.

بِمَ سُدت قَوْمك؟

حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نصر بْن عَلِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ المهيبي رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَرَابَةَ الأَوْسِيِّ: بِمَ سُدْتَ قَوْمَكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أُعْطِي سَائِلَهُمْ، وَأَعْفُو عَنْ جَاهِلِهِمْ، وَأَسْعَى فِي مَصَالِحِهِمْ، فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِي فَهُوَ مِثْلِي، وَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ خيرٌ مِنِّي وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ.

كَيفَ قَالَ فِيك ذُو الرمة هَذِهِ الْأَشْعَار؟

حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو المهلهل الْحُدَاني، قَالَ: ارتحلتُ إِلَى الرمال فِي طلب مي صاحبةِ غيلانَ ذِي الرُّمَّة، فَمَا زلتُ أطلب مَوضِع بَيتهَا حَتَّى أرْشِدتُ إِلَى الْبَيْت، فَإِذا خيمة كبيرةٌ عَلَى بَابهَا عَجُوز هتماء فسَلّمْتُ عَلَيْهَا، ثُمّ قُلْتُ لَهَا: أَيْنَ منزلُ مَيّ؟ قَالَتْ: مَيُّ ذِي الرُّمة، قُلْتُ: نعم، قَالَتْ: أَنَا مي، فعجبت ثُمّ قُلْتُ لَهَا: الْعجب كُلّ الْعجب من ذِي الرُّمَّة وَكَثْرَة مَا قَالَ فِيك، ولستُ أرى من الشَّاهِد وَالْوَصْف شَيْئا، فَقَالَت: لَا تَعْجَبَنَّ يَا هَذَا مِنْهُ، فَإِنِّي سأقوم بِعُذْرِهِ عَنْك، قَالَ: ثُمّ قَالَتْ: يَا فُلَانَة، قَالَ: فَخرجت من الْخَيْمَة جاريةٌ ناهدةٌ عَلَيْهَا برقع، فَقَالَت: أسْفري عَنْك، فَلَمَّا أسفرت تحيَّرتُ لِمَا رَأَيْت من جمَالهَا وبراعتها وفصاحتها، فَقَالَت لي عَلِقَ ذُو الرمة بِي وَأَنا فِي سِنِّها، فَقلت: عَذَرَهُ اللَّهُ ورَحِمَه، أنشديني مَا قَالَ فِيك، قَالَ: فَجعلت تُنْشد وأكتب أَنَا مَا كنتُ مُقيما عِنْدهَا، ثُمّ ارتحلتُ. فَكَانَت مِمَّا أنْشَدتني قَوْله:

خليليّ لَا ربعٌ بِوَهْبِينَ مخبرٌ ... وَلا ذُو حجَى يَسْتَنْطِقُ الدَّار يُعذِرُ

<<  <   >  >>