للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَألف كتابا فِي نقد الشّعْر وأتى بِهَذَا الْمَعْنى فِيهِ، وَذهب غَيره إِلَى إِيثَار الْخَفِيف، وذُكِر أَن الألحان أحسن موقعًا فِيهِ مِنْهَا فِيمَا سواهُ، قَالَ: وَلذَلِك صَار مُحْتملا من الزَّحاف مَا لَا يحْتَملهُ غَيره، فَقلت لهَذَا الرَّجُل: إِن نقد الشّعْر عَلَى التَّحْقِيق عزيزٌ جدا، وَإِن النَّاقِد الَّذِي يُعْتَمدُ فِي النَّقْد عَلَيْه، ويُرجع فِي صِحَّته إِلَيْهِ، لَا يَكُون كَامِلا حَتَّى يَكُون مفرِّقًا عَلَى الصِّحَّة بَيْنَ المطبوع عَلَى المنظوم الْمُؤلف، وبَيْنَ النَّظْمِ الْمُتَكَلّف، وَالطَّرِيق المتعسَّف، وَيكون ناقدًا فِي فقه اللُّغَة غَيْر مقصر عَلَى تأدية مسموعها، وَحفظ مَنْصُوصِها ومَسْطُورها، ومضطلعاً بلطيف الْإِعْرَاب وَقِيَاس النَّحْو، حَافِظًا للأمثال المضروبة، مهتديًا بأعلام الْعقل المنصوبة، حَاصِرًا لمجاري الْعُرْفِ وَالْعَادَة، آخِذا من كُلّ علم وأدب بحظٍّ، وضاربًا فِي صناعات الْفِكر بِسَهْم، وَيكون نَاظرا مِدْرهًا، قَدْ أَنَس بجملة من أساليب المتفلسفين، وصناعة الْمُتَكَلِّمين، وجدال المتناظرين، وَيكون مَعَ هَذَا معتدلا بَعيدا من الْهوى والتعصب لنَوْع دون نوع، وشخص دون شخص، وبحسب تَكَامل هَذِهِ الْخلال، واجتماع هَذِهِ الْخِصَال، تتكامل لناقد الشّعْر نَقده، وبحسب مَا يعْدم مِنْهَا يقل حَظه، وبقدر مَا تَمكُّن هَذَا النَّاقِد من النَّقْد بَيْنَ الرجحان، والتساوي وَالنُّقْصَان، كَمَا يُميِّز وازن الذَّهَب وَالْفِضَّة بَيْنَ الزائِد والمعتدل والناقص بالعيان، ويتجلى الْمَعْنى لأَحَدهمَا بِبَصَرِه وَالْآخر ببصيرته.

بعض النَّاس يَدعِي من الآراء مَا لَيْسَ لَهُ

وَكَانَ بعض من مضى لسبيله من أَهْل زَمَاننَا شكا لبَعض من يُحَاضِرُه فِي مجْلِس بعض وُلَاة هَذَا الزَّمَان، وَحكى عَنْهُ أَنَّهُ يُعَارضهُ فِي أَشْيَاء يَأْتِي بهَا من الْآدَاب، يَدَّعيها لنَفسِهِ، وَكَانَ مِمَّا حكى أَنَّهُ وصف أَبَا تَمام والبحتري، فَقَالَ: أَبُو تَمام أَعلَى، والبحتري أحلى، وادَّعى لنَفسِهِ هَذَا القَوْل، وَقَدْ كَانَ عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد الأَزْدِيّ حكى أَنَّهُ سَمِع رَجُلا فِي مجْلِس ثَعْلَب يَقُولُ هَذَا، فَاسْتَحْيَيْت من هَذَا الْمُخَاطب إِلَى أَن أَقُول لَهُ هَذَا كَلَام قَدْ سبقتما إِلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ لَك وَلا لَهُ، وكِلاكُما مدعٍ مِنْهُ مَا لَا حقَّ لَهُ فِيهِ، وخطر بقلبي، قَول الْقَائِل:

تَجمعُوا فِي فلانٍ فكلُّهم يَدَّعِيه ... والأُمُّ تضحكُ مِنْهُم لعلمها بِأَبِيهِ

وَحكى لي بعض كُتَّابِ ابْن الْفُرات: أَن ابْن الْفُرَات أنْشد هَذَا، قَالَ: فَقلت لَهُ: لَو قَالَ: لجهلها بِأَبِيهِ، كَانَ أَجود، فأعجبه ذَلِكَ فناظرتُ الحاكي فِي هَذَا، وبَصَرْت مَا أَتَى بِهِ هَذَا الشَّاعِر وَلَم أوثر إطالةَ كتابي بحكايته، وَكَانَ بعض أَصْحَابنَا حكى لي عَنْ هَذَا الْمُخَاطب الشاكي إِلَى أَنَّهُ أدعى مثل هَذِهِ الدَّعْوَى فِي شيءٍ أَنَا ذاكرٌ مَا رُوِيَ لي فِيهِ.

دَابَّة وَمَا أشبههَا لَا تقع فِي شعر

حَدَّثَنَا صديقنا الْحَسَن بْن خالويه، قَالَ: كتب الْأَخْفَش إِلَى صديق لَهُ من الْكتاب يستعير مِنْهُ دَابَّة، ودابة لَا تقع فِي شعر لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ ساكنين، فَكتب إِلَيْهِ:

أردتُ الركُوب إِلَى حاجةٍ ... فمرْ لي بفاعلةٍ من دَبَبْتُ

<<  <   >  >>