الْملك بْن مَرْوَان كتب إِلَى الحَجَّاج: أنفذ مَعَ عَبْد اللَّه بْن كَعْب أَرْبَعَة آلَاف إِلَى خُرَاسَان فَفعل، فشخص فِي المعسكر ثَلَاثَة كَانُوا متؤاخين متصاحبين عَلَى اللَّذَّات ومعاقرة الشَّرَاب، يُقَالُ لَهُمْ: أَوْس بْن حَارِثَة وأنيس بْن خَالِد وَبشر بْن غَالب، وَكَانُوا إِذَا نزلُوا منزلا انفردوا دون النّاس فَخَلَوْا بشرابهم ولذاتهم، فَلم يزَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى دخلُوا سجستان ونزلوا رزداق راوند وخزازي..قَالَ أَحْمَد بْن يحيى: الصَّوَاب مَا ذكره وَهُوَ رزداق، ورستاق خطأ - فَمَاتَ أَوْس - قَالَ القَاضِي: أصل هَذَا الْكَلَام بِالْفَارِسِيَّةِ وعُرِّب فَقيل: رزداق ورستاق، وَهُوَ أَكثر فِي كَلَام من تَقَدَّمَ وَمن تَأَخّر فِيمَا وَردت الْأَخْبَار عَنْهُمْ بِهِ فَعظم حزنهما عَلَيْهِ وجزعهما لَهُ، وَقَالَ أنيس يرثيه:
تَخَطّى إِلَى الموتَ من بَيْنَ من أرى ... فأتلفَ نُدْماني لَقَدْ جَار واعْتَدَى
أثْلَبَني فَتى كَانَ النديمَ حياتَهُ ... لَنَا دُونَ خَلْق اللَّه كَانَ أَبَا الرِّضَا
حَلِيمًا أديبًا ماجدًا ذَا سَمَاحَةٍ ... بَعيدا عَن الْفَحْشَاء وَالشَّر والخنا
أَمينا جوادًا غَيْرَ كَزٍّ مخالفٍ ... وَلَا جاعلا ربًّا من المَال مَا حَوَى
يخَوَّنَه الدَّهْر الخَئُونُ برِيبةٍ ... فَأصْبح رهنا للصفائح والصّفَا
أناديه يَا أوسُ بْنُ حَارِثَة الَّذِي ... بِهِ كنتُ أنْفِي الهَمَّ عني والأذى
أجبني لقد أنفذت بالوجد عَبرتي ... عَلَيْكَ أما ترثي لباكٍ إِذَا بَكَى
وَقد كنت ذَا رأيٍ وسَمْع وفِطْنَة ... سَرِيعا إِلَى الدَّاعِي مجيباً الندا
فَلَيْسَ لَنَا إِذَا مَاتَ أَوْس منادِمٌ ... سِوى قَبره حَتَّى يحل بِنَا الرَّدَى
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا:
وردنا خُزازى إِذْ وردنا ثَلَاثَة ... كأنا جَمِيعًا أَيهَا النّاس واحدُ
أنيسٌ وأوسُ الْحَارِثِيّ بْنُ خَالِد ... وَنصر أخوهم والمنايا رواصدُ
فَكُنَّا وَلَا نبغي من النّاس رَابِعا ... كأنا أثاف لَا نَريمُ رواكدُ
فَلَمّا رمانا النّاس بالأعين الَّتِي ... مَتَى يَرْمُقوا شَيئًا بهَا فَهو بائدُ
رمتني بَنَات الدَّهْر منا بأسْهُمٍ ... ونبل المنايا للرِّجَال قواصدُ
فأردَيْنَ أَوْسًا لهفَ نَفْسِي لفقده ... سَقي قبرَه صَوْبُ الغَمامِ الرَّواعدُ
فَمَاتَ أنيس فَعظم حزن نصر عَلَيْهِ، واتصل بكاؤه وجزعه لَهُ، وَقَالَ يرثيه:
أنيس فدته النَّفس مَيْتًا فقدتُهُ ... فنفسي لَهُ حَرَّى عَلَيْهِ تَقَطّعُ
أنيس فدتك النفسُ أصبحتُ مُفردًا ... وحيدًا فَمَا أَدْرِي أخي كَيْفَ أصنعُ