للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْفَضْل، ليرجعوا إِلَى الْمعرفَة بِأَنْفسِهِم، ويتنزهوا عَنِ المنافسة الَّتِي تُفْسِدُ ذاتَ بَيْنهم، ويجتنبوا البَغْيَ والتفاخُرَ، والاستطالة بالتكاثر، وليشكُرِ الْمُفَضَّل مِنْهُم ربه عَزَّ وَجَلّ، إِذْ أَبَانَهُ بِالْفَضْلِ عَلَى من سواهُ، وخصّه بنعمته دون كثير مِمَّنْ عداهُ، وَيُؤَدِّي حق مَوْلَاهُ فِيمَا أولاه وأبلاه، فَإِن النّاس عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَثر مُعَافى ومُبْتلى، وَقَدْ أحسن الَّذِي يَقُولُ:

الناسُ أشكالٌ وشَتَّى فِي الشِّيَمْ ... وكُلُّهُمْ يجمَعُهُ بيتُ الأَدَمْ

وَقَوله عَلَيْه السَّلام: " المَرْءُ كثيرٌ بأَخيه " من بليغ الْكَلَام ونفيس الْحِكَم، لِأَن الْمَرْء يشد أَخَاهُ ويؤازره، ويُعَضِّدُه ويناصره، وَقَدْ أَتَى الْخَبَر فِي الأُمَّةِ الهادية أَنَّهَا كالْبُنْيان يَشُدُّ بعضُه بَعْضًا.

وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَنَاصُرِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ، أَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى عَضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.

وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ بُرْدَةَ، حَدثنَا أَبُو شهَاب، عَن الْحسن، وَعَمْرو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُسْلِمُونَ كرجلٍ وَاحِدٍ، إِذَا اشْتَكَى عضوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ ".

وَفِي استقصاء مَا جَاءَ فِي التعاطف والتواصل، والمصافاة والتباذل، من الرِّوَايَات والْآثَار، والحكايات وَالْأَخْبَار، وتُنُوشد من منظوم الأَشْعَار، طولٌ لَيْسَ هَذَا من مَوْضِعه، واشتهارهُ عِنْد الْعَامَّة والخاصة، يُغني عَنِ الإسهاب فِيهِ، والإطناب فِي ذكره، وإحضار جُمَيْع مَا قِيلَ فِيهِ، وَمَا خَالفه، وَإِنِّي لأستحسنُ مَا أنشدتُه عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْمُعْتَزّ وَهُوَ:

للَّهِ أخوانٌ صَحِبْتُهُمُ ... لَا يملِكُونَ لسلوةٍ قَلْبَا

لَوْلَا تستطيعُ نفوسُهُمْ بَعُدتْ ... أجْسامُهُمْ فتعانقتْ حُبَّا

وَقَوله فِي الْخَبَر: " وَلا خَيْرَ لَكَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مِثْلَ مَا ترى لَهُ ". من أفْصح لفظٍ، وأوضحِ معنى.

وتأويله عِنْدِي: أَنَّهُ لَا خير لامرىء فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لِأَخِيهِ من المناصحة والمكافأة والمخالصة، وَأخذ نَفسه لَهُ بالإنصاف والمساعدة، والإسعاف والمرافدة، مثل الَّذِي يرَاهُ لَهُ أَخُوهُ من ذَلِكَ، وَمن كَانَ لِأَخِيهِ الصَّادِقِ فِي مؤاخاته بِهَذِهِ الْمنزلَة فَهُوَ بالعدو أشبه مِنْهُ بالولي.

وَقَد اخْتلف ذَوُو الْفُحْص والتفتيش من أَصْحَاب الْمعَانِي، فِي قَول الشَّاعِر:

وَإِنِّي لأستحيي أَخِي أَن أرَى لَهُ ... عَلَيَّ مِنَ الحَقّ الَّذِي لَا يرَى ليَا

فَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يرى أَن لي عَلَيْه حَقًا حسب مَا أرى لَهُ من وجوب حَقه عَلَى، ووجَّهُوه إِلَى نَحْو مَا تأوَّلنَاه.

وقَالَ بعض الْمُحَقِّقين من هَذِهِ الطَّائِفَة والمتحققين بتحصيل مَعَانِيهَا:

<<  <   >  >>