وَقَالَ آخر:
لنا جلساء مَا نمل حَدِيثهمْ ... ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهمْ طرف حِكْمَة ... وَلَا نتقي مِنْهُم لِسَانا وَلَا يدا
فِي أَبْيَات.
وَذكر عَن عبد الله بن الْمُبَارك أَنه سُئِلَ: أما تستوحش من مقامك مُنْفَردا بهيت؟ فَقَالَ: كَيفَ يستوحش من يُجَالس النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه رضوَان الله عَلَيْهِم، وَقد كَانَ بعض من كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا صيت ومكانة، عَاتَبَنِي على ملازمتي الْمنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي مَا عودته من الْإِلْمَام بِهِ وغشيان حَضرته، وَقَالَ لي: أما تستوحش الْوحدَة وَنَحْو هَذَا من الْمقَالة، فَقلت لَهُ: أَنا فِي منزلي إِذا خلوت من جليس يقْصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، فِي أحسن أنس وأجمله، وَأَعلاهُ وأنبله، لأنني أنظر فِي آثَار الْمَلَائِكَة والأنبياء، وَالْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء، وخواص الْأَعْلَام الْحُكَمَاء، وَإِلَى غَيرهم من الْخُلَفَاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، وَالْكتاب والبلغاء، والرجاز وَالشعرَاء، وكأنني مجَالِس لَهُم، ومستأنس بهم، وَغير ناء عَن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فِيمَا انْتهى إِلَيّ من حكمهم وآرائهم.
وَقد تجشمت إملاء هَذَا الْكتاب على مَا خلفته ورائي من طول السنين، حصلت فِيهِ من عشر التسعين، مَعَ ترادف الهموم وتكاثف الغموم، ومشاهدة مَا أَزَال مرتمضاً بِهِ، وممتعضاً مِنْهُ لفساد الزَّمَان وانتكاسه، وَعَجِيب تقلبه وانعكاسه، واختلاطه وارتكاسه، وَوَضعه الْأَعْلَام الرفعاء، وَرَفعه الطغام الوضعاء، فقد أحل الأراذل مَحل الأفاضل، وَأعْطى السَّفِيه الأخرق حَظّ النبيه الْعَاقِل، وَصرف نصيب الْعَالم إِلَى الْجَاهِل، وصير النَّاقِص مَكَان الوافر الْكَامِل، وَالرَّاجِح الْفَاضِل، وَقدم على الْعلم المبرز الغفل الخامل، وَلَقَد قلت فِي بعض مَا دفعت إِلَيْهِ، وامتحنت بِهِ، حِين منعت النّصْف، وحملت على الْخَسْف، حَتَّى انقدت للعنف، وأصبحت عِنْد الْغَلَبَة والعسف:
علام أعوم فِي الشّبَه ... وأمري غير مشتبه
أرى الْأَيَّام مُعْتَبرا ... على مَا بِي من الوله
بلحظ غير ذِي سنة ... وحظ غير منتبه
أروح وأغتدي غبناً ... أَكثر من أقل بِهِ
وَقلت فِي نَحْو هَذَا الْمَعْنى:
أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشَّرَاب من السراب
أُرِيد من الزَّمَان النذل بذلاَ ... وأرياً من جنى سلع وصاب
أرجي أَن أُلَاقِي لاشتياقي ... سراة النَّاس فِي زمن الْكلاب
فِي كثير من نَحْو هَذَا من النثر والقريض، وذم الزَّمَان السوء بِالصَّرِيحِ والتعريض،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute