قيل لَهُ ذَلِكَ: إِمَّا لأنَّه يتَعَلَّق بِمَا تُخَيِّلُه لَهُ وساوسُه فَيظْهر من لَفظه مَا يُنبئ عَنِ اختلاله ويعجب سامعوه مِنْهُ بضحك من خُرُوجه عَنِ الِاعْتِدَال وَالصِّحَّة، وَيَأْتِي بِأَلْفَاظ خَارِجَة عَنْ سَنَن الْحِكْمَة، وَإِمَّا لِأَن سامعيه يَطْربون تَعَجُّبًا بِمَا يُبديه ويستخرجون مِنْهُ مَا ينشطون ويرتاحون عِنْدَهُ، فكأنهم يجتنون ثَمَرَة أَوْ يخترفون فَاكِهَة، وَمن هَا هُنَا قيل: فكهت من كَذَا أَي عجبت، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وَلَقَد فَكِهْتُ من الَّذين تقاتلوا ... ويم الخميسِ بِلَا سلاحٍ ظاهرِ
وَمن هَذَا الأَصْل قيل للمُزَاح: فكاهة، لما فِيهِ من مسَّرةِ أَهله والاستمتاع بِهِ، قَالَ الشَّاعِر:
حُزُقٌّ إِذَا مَا القَوْمُ أبْدَوْا فُكَاهَةً ... تفكراً آإياه يَعْنُونَ أمْ قِرْدًا
وَقَالَ بَعْض أَهْلَ الْعلم: الْغَيْبَة فَاكِهَة الْقُرَّاء.
وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض أَنَّهُ قَالَ: لكل شَيْءٍ ديباج، وديباج الْقُرَّاء ترك الْغَيْبَة.
وَمن كَلَام الْعَرَب السائر: لَا تمازح صَبيا وَلَا تفاكهن أمة، يُرِيد: وَلَا تمازحن، وَخَالف بَين اللَّفْظَيْنِ مَعَ اتِّفَاق الْمَعْنى لأنَّه أحسن كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وقَدَّمَت الْأَدِيم لراهشيه ... وألفى قَوْلهَا كَذَّاب ومِينًا
والمين: الْكَذِب، وَقَالَ آخر:
أَلا حَبّذَا هِنْد وأرْضٌ بهَا هندُ ... وهندُ الَّتِي من دُونها النّأيُ والبعدُ
وَمن الخريف والاختراف عَلَى مَا قدمنَا ذكره: لفُلَان مَوضِع كَذَا خرفة، أَي مقَام فِي الخريف، وَيُقَال: زمَان صَائِف وشات ورابع وقائظ، من الصَّيف والشتاء وَالربيع والقيظ، وَلم يَقُولُوا مثل هَذَا فِي الخريف، وَيُقَال فِي النّسَب: خرْفيُّ وربْعِي، كَمَا قَالَ:
إِن بَنِيَّ صبيةٌ صيْفِيُّون ... أَفْلح من كَانَ لَهُ رِبْعيُّون
وَمِنْه الرّبع فِي الْمَاشِيَة، قَالَ الشَّاعِر:
وَلَها بالمَاطِرُونَ إِذَا ... أكل النّمْلُ الَّذِي جَمَعَا
خِرفة حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ من جِلّقٍ بِيَعَا
فِي قبابٍ وَسْطَ دسكرةٍ ... حَوْلَها الزَّيْتُون قَدْ يَنَعَا
ويروى: خرفة عَلَى مَا فسرنا، ويروى: خلفة من الِاخْتِلَاف إِلَى الْمَكَان، وَقَول اللَّه جلّ ذكره: " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا "، وَقد اخْتلف أَهْلَ التَّأْوِيل فِي تَأْوِيله، فَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ أنَّ مَا فَاتَ فِي أَحدهمَا قضى فِي الآخر، كَالصَّلَاةِ تفوت لَيْلًا فتُقْضى نَهَارا وتفوت نَهَارا فتقضى لَيْلًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنى أَنَّهُ جَعلهمَا مُخْتَلفين فِي ألوانهما هَذَا أسود وَهَذَا أَبيض، وَقَالَ آخَرُونَ: إِن كلّ وَاحِد مِنْهُمَا