ثمَّ عَاد الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الثَّالِثَة فَقَالَ لَهَا: تغني فغنت بِصَوْت لحنين تَقول فِيهِ:
مَرَرْنَا على قيسيةٍ عامريةٍ ... لَهَا بشر صافي الْأَدِيم هجان
فَقَالَت وَأَلْقَتْ جَانب السجف دونهَا ... من آيَة حَيّ أَو من الرّجلَانِ
فَقلت لَهَا أما تَمِيم فاسرتي ... هديت وَأما صَاحِبي فيماني
رفيقان ضم السّفر بيني وَبَينه ... وَقد يلتقي الشتى فيأتلفان
قَالَ فَعَاد الْخَادِم إِلَى الرجل فَقَالَ لَهُ: تغنه، فغنى بصوتٍ لي شبه فِيهِ، وَالشعر لعمر بن أبي ربيعَة الْغناء للغريض يَقُول فِيهِ:
أمس بأسماء هَذَا الْقلب معمودا ... إِذا أَقُول صَحا يعتاده عيدا
كَأَن أحور من غزلان شيهمةٍ ... أعارها شبها خديه والجيدا
قَامَت ترَاءى وَقد جد الرحيل بِنَا ... لتنكأ الْقرح من قلبٍ قد اصطلدا
بمشرق كشعاع الشَّمْس بهجته ... ومسبكر على لباتها سُودًا
ثمَّ عاج الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الَّتِي تليه فَقَالَ لَهَا: تغني، فغنت بصوتٍ لحكم الْوَادي يَقُول فِيهِ:
تعيرنا أَنا قيل عديدنا ... فَقلت لَهَا إِن الْكِرَام قَلِيل
وَمَا ضرنا أَنا قَلِيل وجارنا ... عَزِيز وجار الْأَكْثَرين ذليل
وَإِنَّا لقوم مَا نرى الْقَتْل سبةً ... إِذا كرهته عَامر وسلول
يقرب حب الْمَوْت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وتغنت الْجَارِيَة الثَّانِيَة عِنْد قَول الْخَادِم لَهَا تغني:
وددتك لما كَانَ ودك خَالِصا ... وأعرضت لما صَار نهبًا مقسمًا
وَلنْ يلبث الْحَوْض الوثيق بناءه ... إذاكثر الوراد أَن يتهدما
وتغنت الثَّالِثَة بِشعر الخنساء بنت عَمْرو بْن الْحَارِث فِي أَخِيهَا صَخْر:
وَمَا كرّ إِلَّا كَانَ أول طَاعن ... وَلَا أبصرته الْعين إِلَّا اقشعرت
فيدرك ثأرا ثُمَّ لم يخطه الْغنى ... فَمثل أخي يَوْمًا بِهِ الْعين قرت
وَإِن طلبُوا وترا بدا بتراتهم ... ويضربهم شزرا إِذا الْخَيل ولت
فلست أرزا بعده برزيةٍ ... فأذكره إِلَّا سلت وتجلت
وَكَانَ غناء الرجل فِي الدّور الثَّالِث:
لحا الله صعلوكا يبيت وهمه ... من الدَّهْر أَن يلقى لبوسا ومطعما
ينَام الضُّحَى حَتَّى إِذا نَومه اسْتَوَى ... تنبه مسلوب الْفُؤَاد مورما