فضاق خناقه، وأيس؛ فخرج من طرابلس إلى العراق مستنجداً فلم يجد ناصراً. واختلت أحواله، وعاد إلى دمشق وقد ملك الفرنج طرابلس فسار إلى مصر. وقال في: كتابه والمملوك لم يصل إلى هذه الوجهة إلا وقد علم أن له من الذنوب السالفة ما يستحق به القتل، وقتله بسيوف هذه الدولة عدل وإحياء له وتشريف، وفخر يكفر عنه بعض ذنوبه من كفر نعمتها؛ فإن خرج الأمر بذلك فمنة كريمة، وإن خفف عنه فتخليده في السجن أحب إليه من رجوعه إلى تأميل غير هذه الدوله.
فلما عرض هذا بالحضرة أدركته الرأفة بعد أن استفظع كل من الحاضرين أمره وأشير بإيقاع الحوطة عليه وإيداعه خزانة البنود. فقال المأمون للخليفة: قد أجل الله عواطف مولانا ورحمته من أن يهاجر أحد إلى أبوابه ويلجأ إلى عفوه فيخيب أمله ويؤاخذ بذنبه؛ وما بعد استسلامه إلا الشكر لله والعفو عن جرمه، فإن العفو زكاة القدرة عليه؛ ويشمله ما شمل أمثاله. فأعجب الخليفة الآمر ذلك، وخرج الأمر بأن تعدد على ابن عمار ذنوبه وذنوب أسلافه ويقال له: قد أذهبت مهاجرتك ما كان يجب من عقوبتك. فإذا اعترف بذنوبه وذنوب أسلافه يقال له: قد غفر ذنبك وأنت مخير بين أمرين؛ إما أن تعود فيصل إليك من الإنعام ما يبلغك إلى حيث تريد ويصحبك من يوصلك إلى مأمنك، وإما أن تؤثر الإقامة بفناء الدولة فتقيم على أنك تلزم ما يعنيك وتقنع بما ينعم به عليك وتقبل على شأنك وتترك التعرض للمخالطات وتتجنب جميع المكروهات.
فلما خوطب بذلك قبل الأرض وأبى أن يرفع رأسه ووجهه، وكلما خوطب في رفعه قال لست أرفعه حتى أتلقى كلمات العفو عن إمام زماني وتمتلئ مسامعي بألفاظ مغفرته. فبلغته الحضرة النبوية ما تمناه، وحصل له الأمن؛ وأمر به إلى دار أعدت له وجعل فيها شهوات السمع والبصر، وحملت إليه الضيافات الكثيرة، وجرد برسم خدمته حاجب معه عدة مستخدمين. فأقام أياما يسيرة ثم حملت إليه الكسوات التي لا نظير لها، ووصله من المواهب ما أربى على أمله. وقرر له، راتبا في كل شهر، ستون دينارا مع مياومة الدقيق واللحم والحيوان. وصار يتعهد ما يفتقد به أعيان الضيوف من بواكير الفاكهة المستغربة وأنواع التحف المستظرفة ورسوم المواسم، ورفع عنه الحاجب والمستخدمون، وجعل له