للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان أكثر وقته صائما وهو يتلو القرآن ولا يسأل عن طعام ولا شراب. وكان فى حال وزارته كثير الصمت مواصل الإطراق، ساكن النفس هادئ الطّباع، فكان يظنّ أن ذلك من تيه وصلف وإعجاب وقلة احتفال بالناس؛ فلما صار فى الاعتقال بعد القبض عليه كان حاله على ما كان ممّا ذكر. ومن عجيب ما وقع أن خطير الملك محمد بن الوزير اليازورى كان ينوب عن أبيه فى قضاء القضاة، فلما سار إلى الشّام بالعساكر الكثيرة معه كان فى حال من البذخ والتجمّل فى حال لا يمكن شرحها؛ فلما نكب أبوه آل حاله إلى أن يرى فى مسجد بمدينة فوّة (١) يخيط للناس بالأجرة، وقد نزل به من الفقر والبلاء شدائد وهو يبالغ فى مطالبة (٢) شخص بأجرة ما خاطه له، والرّجل يماطله. فلمّا ألح فى المطالبة قال له: يا سيّدنا اجعل هذا القدر اليسير من جملة ما ذهب منك فى السّفرة الشامية.

فقال: دع ذكر ما مضى. فسأله رجل عن ذلك فلم يجبه، فسأل عبده، فقال الذى ذهب منه فى تلك السّفرة على نفقات سماطه مقدار ستة عشر ألف دينار. فسبحان من لا يزول ملكه.

وفيها ولى الوزارة بعد اليازورى أبو الفرج عبد الله بن محمّد البابلىّ، وكان أوّلا من جملة أصحاب الدّواوين فقبض عليه الوزير أبو البركات ابن الجرجرائىّ، وصادره على عشرة آلاف دينار أخذ خطّه بها؛ فباع موجوده بستة آلاف دينار وبقى عليه أربعة آلاف دينار، فانطرح على اليازورى وسأله الشّفاعة له، وكان يومئذ ينظر لأمّ الخليفة؛ فسأل الخليفة له فى ذلك، فوقّع بمسامحته منها بألفى دينار، فلمّا صرف الوزير أبو البركات وتولّى اليازورى الوزارة وقّع بمسامحة البابلىّ بالألفين الباقية، واستخدمه فى التوقيع، وردّ إليه ديوان تنّيس ودمياط، وديوان الخاصّ وغيره من الدّواوين، حتى كان فى يده ستة


(١) مدينة تقع قرب رشيد بينها وبين البحر ستة فراسخ. معجم البلدان: ٤٠٦:٦.
(٢) فى الأصل: يطالب فى مطالبة