وكان يحضر مجلس الوزير يوم الخميس فى القصر بعد قضاء خدمة المجالس، ثم فى الدّار يوم الاثنين مسلّما عليه. فحضر دار الوزارة يوم الاثنين على رغمه، فقرّبه الوزير وسأل عن حاله؛ فأجاب بأنه لا حكم له ولا أمر، والأحكام مردودة إلى خليفتيه ولهما الحكم دونه، فإذا حضرا فتح باب الحكم، وإذا غابا أغلق بابه. فقال له: كفيت يا قاضى القضاة. وخرج من عنده وحضر بعده القضاعى وابن أبى زكرى، فقال لهما الوزير:
ما لقاضى القضاة يتضرّر منكما ويشكو استيلاء كما على الحكم دونه، وأنه لا تنفذ أوامره معكما؟ فقالا: وأىّ أمر لنا دونه، هل أوقفنا أمر أحكامه، أو لنا غلمان يمسكون حجج النّاس حتى يصانعوهم عليها؟ يعرّضان بغلمان القاضى! إنما نحن فى حضورنا كبعض الشهود والأمر إليه فى إمضاء الأحكام؛ وإنا لنشاهد ما لا يتّسع لنا الكلام فيه. فقال: كفيتما أيها القضاة. وانصرفا وقد انفتح له باب الحيلة فى صرف القاضى وتولية أبى محمد اليازورى.
واتفق مع ذلك توعّك أبى محمد وانقطاعه أياما فى داره عن مجلس الخليفة، فخلا له وجه السلطان وأعاد عليه النّوبة، ثم قال له: أنت يا أمير المؤمنين لسان الشرع، ومقيم مناره، ومنفّذ أحكامه؛ وقاضى القضاة إنما ينطق بلسانك، وينفّذ الأحكام عنك؛ فإذا اشتهر فى الأقطار ما يتمّ على الناس فى أحكامهم كان سوء السمعة فى ذلك على الدولة، وإثارة الشّناعة القبيحة عليها؛ وفى الخصوم من هو من المشرق والمغرب واليمن وما وراءه، والرّوم؛ وفى استفاضة ذلك غضاضة على الدّولة. ونحن إنّما نطول على الممالك والدّول بإقامة سنن الشريعة وإظهار العدل الذى عفت آثاره فى غيرها من الدّول؛ وقد كبر قاضى القضاة واستولى عليه غلمانه وغلبوا على أمره. فقال المستنصر: نحن نحفظ فيه خدمة سلفه لنا ومهاجرتهم معنا. فقال: يا أمير المؤمنين، حفظك الله وشكرك؛ أما كان من كرامة سلفه أن يستتر حتى لا يشيع هذا عنه؟ وما زال حتى قال الخليفة: من فى الدولة يجرى مجراه؟ فقال: يا أمير المؤمنين: عبيدك كثير، ومع ذلك فبين يديك من يتحمّل