للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يكون فى اختيار الإنسان إلى من تطمح إليه الأبصار أو تتطلع إليه النفوس أوفى من شخص البابلى، مع شيبته وظاهر سمته وهيبته؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فقال: والله لقد ظننت أنّ الدولة تتضاعف قدرتها بنظره، وينضاف إليها مثلها بحسن تدبيره وأنّ من وراء هذا الشخص ما وفى عليه؛ فاذا ثيابه لاتسع رقاعته وغمّته، والحيّة قد نشفت قرعته.

وذلك أن اليازورىّ أقام فى خدمتنا عشر سنين عددنا عليه ثمانية عشر ذنبا، وأقام البابلىّ اثنين وسبعين يوما نقمنا عليه تسعة عشر ذنبا، مع ظاهر كذبه وقلّة احتشامه عندى؛ وذلك أنه ذكر لى من حال السقية ما كثر تعجّبى منه وأنا بين تصديق الحكاية وتكذيبها، واحتشمت أن أردّ عليه فيتحقق تكذيبى له. وكان من إقدامه على قتل اليازورى ما كان، وساء لنا ذلك إذ لم نكن نريد قتله. فلما كان بعد ذلك بأيام يسيرة أمرته بشئ فعارضنى وضرب الأمثال بما يصدّنى عن ذلك الأمر؛ فقلت له أيّها الوزير، اعلم أنّ اليازورى لم تطل مدّته معنا وتثبت قدمه إلا أنّا كنا إذا أمرناه بشئ انتهى إليه ولم يتجاوزه. فقال لى مجيبا: يا مولانا وكأن اليازورىّ كان ينقط نقطة إلاّ ما أمثّله له وأوقفه عليه! يريد أنه كان يدبّر اليازورى ويعلمه ويفهمه؛ فلم يتأمل ما عليه فيه، ولا ذكر ما كان قاله من حال السقية؛ وأذكرنى قوله هذا حال السقية، فقلت له وقد اغتظت منه: يخرس الله الوزير، فإذا كانت السقية برأيه! فلما سمع ذلك منى دهش وقال: أعوذ بالله يا مولانا ولكننى كنت أبصّره صواب الرأى، وأشير عليه بما فيه حميد العاقبة. فعند ذلك تحققت من كذبه على الرجل ما كنت شاكا فيه. ووجه كذبه فيما حكاه من ذلك أنّ الرئيس الجليل القدر إذا أراد أن يهمّ بمثل هذا الأمر فى سائسه أو من يجرى مجراه لم يكد يعلم ولده بما يريده منه، فكيف إذا عزم على فعل ذلك مع مثلى، هل يسوغ أن يطلع أحدا عليه؟ ومع هذا فما الّذى يدعوه أن يخرج بذلك إلى غيره، وربّما نمّ عليه وتقرّب إلىّ باطلاعى عليه؛ وإلاّ تولى بنفسه مع إكثارى كان من زيارته وسكونى إليه، وأنى لم أتّهمه بذلك قطّ فآخذ حذرى منه، وكان بهذا الحكم يتمكن من بلوغ غرضه منّى بحيث