للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معهما حديث البتّة. فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين، إنهم قد اتفقوا على أذى النّاس، وقد جعلك الله خليفة فى الأرض واسترعاك على عباده، وكلّ راع مسئول عن رعيته.

فشقّ على الخليفة، وعمل فيه كلام الأستاذ، وخرج؛ فما بات حتى صرف صاحبى الدّيوان واعتقلهما، ليستعيد منهما ما أخذاه للنّاس ظلما؛ واستدعى الرّاهب، وكان بحضرته رجل من الأشراف، فلما حضر الراهب أنشد:

إنّ الذى شرّفت من أجله … يزعم هذا أنّه كاذب (١)

فقال الآمر للرّاهب: يا راهب، ماذا تقول؟ فسكت. فأمر حينئذ والى مصر بأخذه إلى الشرطة وضربه بالنّعال حتّى يموت. فمضى به إلى شرطة مصر، وما زال يضرب بالنّعال حتى مات، فجرّ بكعبه إلى عند كرسى الجسر (٢) مسحوبا، وسمّر على لوح، وطرح فى بحر النّيل؛ فكان كلّما وصل إلى ساحل من سواحل مصر وهو منحدر دفعوه إلى البحر؛ فلم يزل حتّى خرج إلى البحر الملح، واشتهر ذكره، وسارت الرّكبان بهلاكه.

وكان هذا الراهب أوّلا من أشمون طنّاح (٣)، وترهّب على يد أبى إسحاق بن أبى اليمن، وزير ابن عبد المسيح متولّى ديوان أسفل الأرض (٤)، ثم قدم إلى القاهرة واتصل بخدمة ولى الدّولة أبى البركات يحنّا بن أبى الليث، كاتب المجلس (٥). فلمّا قتل الوزير المأمون


(١) ذكر ابن خلكان فى ترجمة الفقيه أبى بكر محمد بن محمد الفهرى الطرطوشى أنه جلس إلى جوار الوزير الأفضل الجمالى فى إحدى زياراته له وأنشده هذا البيت مع سبقه ببيت آخر يقول:
يا ذا الذى طاعته قربة … وحقه مفترض واجب
وأشار فى أثناء إنشاده البيت المذكور بالمتن إلى رجل نصرانى من كتاب الأفضل كان يجلس إلى جواره، فأمر الأفضل بإقامته من موضعه. وفيات الأعيان: ٥٧٩:١.
(٢) الجسر المقصود هنا كان يمتد بين ساحل مصر (الفسطاط) وبين جزيرة الروضة، وفيما بين جزيرة الروضة وبر الجيرة، وقد عمل من مجموعة من المراكب صفت، بعضها إلى جوار بعض، موثقة بالحبال، ومدت فوقها أخشاب غطيت بالتراب، وذلك لعبور الناس والدواب. المواعظ والاعتبار: ١٧٠:٢.
(٣) الضبط من معجم البلدان. بالقرب من دمياط، وتقع جنوب دكرنس الحالية. معجم البلدان: ٢٦٠:١ - ٢٦١.
(٤) كانت وظيفة متولى ديوان ما من الوظائف الهامة فى الدولة يعلوها منصب الناظر ويتلوها منصب المستوفى. ولم يكن من بين أعوان متولى الديوان أو من بين موظفى الدواوين عامة فى مصر من يلقب بالوزير.
(٥) كان الأفضل قد أنشأ فى سنة إحدى وخمسمائة ديوانا سماه ديوان التحقيق استخدم فى الإشراف عليه أبا البركات يوحنا بن الليث المذكور هنا فى المتن وقد بقى يعمل فى هذا الديوان إلى أن قتل سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. واستمر هذا الديوان فى مهمته إلى انتهاء عهد الفاطميين ثم توقف، وأعاده الكامل الأيوبى سنة أربع وعشرين وتوقف بعد سنتين، ثم أعاده السلطان المعز أيبك واستخدمه فى استيفاء مقابلة الدواوين، وهو نوع منه. نهاية الأرب: ٢٨. ويقول المقريزى: وهذا الديوان مقتضاه المقابلة على الدواوين، وكان لا يتولاه إلا كاتب خبير وله الخلع والمرتبة والحاجب، ويلحق برأس الديوان، يعنى متولى النظر، ويفتقر إليه فى أكثر الأوقات. المواعظ والاعتبار: ٤٠١:١.