فعباس بن الأحنف قال يلقي دلوه في الدلاء فيغترف الصفو أحياناً والحماة أحياناً على أن كدره أكثر من صفوه، قلت فمسلم الخاسر، قال مقل مداح شعره ديباج وعهن يموه الرديء حتى يشبه الجيد، قلت فأبو الشيص قال جده كله فيه حلاوة وبشاعة كالسدرة التي نفضت ففيها المستعذب والمستبشع قلت فعلي بن جبلة قال بحاث عن الكلام الفخم والمعنى الرائع لا ينال مرتبة القدماء ويجل عن منزلة النظراء، قلت فأبو تمام قال سيل كثير الغثاء غزير الغمار جم النطاف فإذا صفا فهو السلاف بالماء الزلال، قلت فعبد الصمد بن المعذل قال خراج ولاج يعتسف تارة ويهتدي أخرى، قلت فعلي بن الجهم، قال كلام رصين ومسلك وعر عقله أغلب على شعره من طبعه قلت فبكر بن النطاح قال تشبه بالأعراب فأفرط وتجاوز حد المولدين فأسهب فهو الساقط بين القريتين.
["ووصف ابن الأثير المتوفى سنة ٧٥٩ هـ? أبا تمام والبحتري والمتنبي"]
قال لقد وقفت من الشعر في كل ديوان ومجموع وأنفذت شطراً من العمر في المحفوظ منه والمسموع فألفيته بحراً لا يوقف على ساحله وكيف يحصى قول لم تحص أسماء قائليه فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده وتتشعب مقاصده ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم في اتباع من قصر نظره على الشعر القديم إذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل اللطيف فمتى وجدت ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل وقد اكتفيت من هذا بشعر أبي تمام والبحتري والمتنبي وهؤلاء الثلاثة هم (لات الشعر وعزاه ومناته) الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين وفصاحة القدماء وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء: أما أبو تمام فإنه رب معان وصيقل أذهان وقد شهد له بكل معنى مبتكر لم يمش فيه على أثر فهو مدافع عن مقام الأغراب الذي برز فيه على الإضراب