لا كان مبدأ كلا انقلاب عظيم في أي أمة: إما دعوة دينية وإما دعوة سياسية، وكانت تلك الدعوة تستدعي ألسنة قوالة من أهلها لتأييدها ونشرها وألسنة من أعدائها وخصومها لإدحاضها والصد عنها، وذلك لا يكون إلا بمخاطية الجماعات: وكان ظهور الإسلام من أهم الحوادث التي أنشطت الألسن من عقلها وأثارت الخطابة من مكمنها فوق ما كانت عليه في جاهليتها فكان العمل الأكبر لصاحب الدعوة العظمى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بادئ أمره غير تبليغ القرآن وارداً من طريق الخطابة. ولأمر ما جعلها الشارع سعار كل الأمور ذوات البال، كان دعاة النبي صلى الله عليه وسلم ورسله إلى الملوك وأمراء جيوشه وسراياه ثم خلفاءه من بعده عمالهم كلهم خطباء مصاقع ولسنا مقاول وأن الشعر صرفهم عن اللهو والشعر الذي لا ينهض بأعباء الخطابة ولاسيما الدينية لشرحها الحقائق وقرعها الأسماع بالحجج العقلية والوجدانية وترغيبها في الثواب وترهيبها من العقاب بعبارات تفهمها الخاصة والعامة وكان لهم من القرآن أدلته وحجته والاقتباس منه مدد أيما مدد.
ولما حدثت الفتنة بن المسمين بعد مقتل عثمان، وافترقوا إلى عراقيين بزعامة علي وشاميين بزعامة معاوية ولكل منهم دعوة يؤيدها ورغبة يناضل عنها في تلك الحرب الشعواء التي لم ينكب الإسلام بمثلها، ظهر من كلتا الطائفتين خطباء لا يحصى عددهم ولا يشق غبارهم، وعلى رأس العراقيين شيخ الخطباء علي بن أبي طالب وعلى رأس الشاميين معاوية بن أبي سفيان ولم يعدم كل طائفة خطباء يؤيدون دعوتها بما أتوا من البلاغة في الخطابة والفصاحة والبيان.
والخطابة وصلت في هذا العصر إلى أرقى ما وصلت إليه في اللسان العربي حتى ممن يعد عليهم اللحن ولم تسعد العربية بكثرة خطباء ووفرة خطب ومثل