ولكن الكمال لله وحده، فإن منتهى الزيادة مبتدأ النقص، ففي الليلة الخامسة عشرة يتأخر طلوعه من المشرق، وينقص من حافة نوره التي كانت موضع هلاله الأول زيق لا يشعر به إلا في الليالي التالية، ولا تزال مطالعه في تقهقر ونوره في تناقص حتى قرب آخر الشهر، فيشرق قبيل الفجر هلالاً ضئيلاً يكاد يكون مقلوب الهلال الأول، وفي الليلة الأخيرة يكون عند الصباح في الأفق الشرقي مظلماً لا يرى منه شيء، وهي ليلة المحاق أو السرار، ويظل بعض النهار كذلك، ثم يتولد هلاله الجديد، ولكنه لا يظهر إلا بعد أن يغيب قرص الشمس، فيلوح هلاله ثم يختفي كما قدمنا.
وعلة ذلك أن نور القمر كنور الأرض مستفاد من الشمس، وهو لا يقابل الأرض إلا بوجه واحد لا يتغير، وهذا الوجه بالنسبة إلى حركته مع الأرض حول الشمس لا يقابل الشمس مقابلة تامة إلا في وضع واحد ومرة واحدة هي الليلة الرابعة عشرة، فيغشاه نورها، ويصير بدراً، أما بقية الليالي التي قبلها والتي بعدها فينحرف قليلاً أو كثيراً عنها، حتى يصير كله ظلاماً ليلة المحاق، فيطوى خبره، ويكون الوجه الآخر الذي لا يرى لنا بدراً كاملاً، ثم يتولد هلاله خلقاً جديداً.
وكذلك شأن الأرض في استمداد نورها أو ما نسميه نهاراً، فلو كان في القمر سكان لكانت في رأي أعينهم أكبر كوكب في السماء، ولشاهدوها أكبر من الجرم الذي نشاهد القمر عليه أضعافاً مضاعفة، لكانت عندهم أروع جمالاً وأبدع من قمرهم في نظرنا تشكلاً، فبدورانها على نفسها يرونها كلها جزءاً فجزءاً، وتظهر قارتها ومحيطاتها واضحة عليها في وقت الصحو ومظللاً بعضها بالغمام في وقت الدجن، وتبدو أهلتها وبدورها ضخمة باهرة ولكن لا يراها إلا سكان النصف المقابل لنا أو الذين يريدون التفرج برؤيتها من أهل النصف الثاني.