عندهم: أما المحققون من الأدباء فيخصون الشعر بأنه الكلام الفصيح الموزون المقفى المعبر غالباً عن صور الخيال البديع. وإذا كان الخيال أغلب مادته أطلق بعض العرب تجوزاً لفظ الشعر على كل كلام تضمن خيالاً ولو لم يكن موزوناً مقفى، ولجريه وفق النظام الممثل في صورة الوزن والتقفية كان تأثيره في النفس من قبيل إثارة الوجدان والشعور لبسطاً وقبضاً وترغيباً وترهيباً لا من قبيل إقناع الفكر بالحجة الدامغة والبرهان العقلي، ولذلك يجمل أثره في إثارة العواطف وتصوير أحوال النفس لا في الحقائق النظرية، ولا ريب أن النفس ترتاع بصور المحسوس الباهر وما انتزع منه من الخيال الجلي لخفة مؤونته عليها وإراحته لها من المعاناة والكد، فكيف إذا انضم إلى ذلك نغم الوزن والقافية الشديد الشبه بتأثير الإيقاع والتلحين الذي يطرب له الحيوان فضلاً عن الإنسان، والعرب بفطرتهم مطبوعين على الشعر لبداوتهم. وملأمة بيئتهم لتربية الخيال، فالبدوي لحريته واستقلاله بأمر نفسه يغلب على أحكامه الوجدان، ويسلك إليه من طريق الشعور، ومعيشة البدوي فوق أرض نقية التربة وتحت سماء صافية الأديم، ساطعة الكواكب، ضاحية الشمس، جلت لحسه مناظر الوجود، وعوالم الشهود فكان لخياله من ذلك مادة لايغور ماؤها، ولا ينضب معينها، فهام بها في كل واد وأفاض منها إلى كل مراد، وكان له من لغته وفصاحة لسانه أقوى ساعد، وأكبر معاضد. ويشعر الإنسان بطبعه أن الشعر متأخر في الوجود عن النثر وإن كانت واسطة بين النثر والشعر، فليست إلا السجع لما فيه من معادلة الفقر، والتزام القافية والميل إى التغني به فكان من ذلك المقطعات والأراجيز الصغيرة، يحدون بها الإبل، ويعدون بها المكارم ثم لما تمت ملكة الشعر فيهم، واتسعت أغراضه أمامهم، نوعوا الأوزان وأطالوا القوافي، وقصدوا القصيد.
وقد خفي علينا "كأكثر الأمم" مبدأ قول الشعر، وأول من قاله.