للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والذين ظنُّوا أنَّ العهد لا يكون إلا موقَّتًا، والوفاء واجب (١)، حاروا في جواز البراءة إلى المشركين، فصاروا إلى ما يظهر فساده، فقالت طائفةٌ: إنما يبرأ من نقض العهد. وهذا باطلٌ من وجوه كثيرة، فإنَّ مَن نقض العهد فلا عهدَ له، ولا يحتاج هذا إلى براءةٍ ولا أذانٍ، فإنَّ أهل مكة الذين صالحهم يومَ الحديبية لما نقضوا العهد سار إليهم وكتم مسيره، ودعا الله أن يكتم خبره عنهم، ولمَّا كتب إليهم حاطب بن أبي بَلْتَعة بخبره أنزل الله فيه ما أنزل (٢)، ولم يفجأ أهل مكة إلا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وجنود الله قد نزلوا بساحتهم، وهذا كان عام ثمانٍ قبل نزول (براءة).

وأيضًا: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا بكرٍ، وأردفه بعلي - رضي الله عنهما - يؤذن بسورة براءة (٣)، فنبَذَ العهود إلى جميع المشركين مطلقًا، لم ينبذها إلى من نقض دون من لم ينقض.

وأيضًا: فالقرآن نبذها إلى المشركين، وإنَّما استثنى من كان له مدةٌ ووفاءٌ، فمن كان فيه هذان الشرطان لم ينبذ إليه.

وأيضًا: فإنه سبحانه قال: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اَللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا اَلَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ اَلْمَسْجِدِ اِلْحَرَامِ فَمَا اَسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاَسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: ٧]، فجعل نفس الشرك مانعًا من العهد، إلا الذين


(١) في هامش الأصل: «جائز»، خطأ.
(٢) نزل فيه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:١]. انظر: «صحيح البخاري» (٤٨٩٠) ومسلم (٢٤٩٤).
(٣) كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري (٣٦٩).