للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإذا كانوا وُلِدوا على هذه الفطرة فقد وُلِدوا على هذه المعرفة، ولكن فيه أنَّ بعضهم أقرَّ كارهًا مع المعرفة بمنزلة الذي يَعرِف الحقَّ لغيره ولا يُقِرُّ به إلا مُكرَهًا. وهذا لا يقدَح في كون المعرفة فطريةً، مع أنَّ هذا لم يبلُغنا إلا في هذا الأثر، ومثل هذا لا يُوثَق به، فإنَّه في تفسير السُّدِّي، وفيه أشياء قد عُرِف بطلان بعضها. وهذا هو السُّدِّي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن، وهو ثقةٌ في نفسه. وأحسن أحوال هذه الأشياء أن تكون كالمراسيل إن كانت أُخِذَت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذٌ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرًا، وقد عُرف أنَّ فيها شيئًا كثيرًا ممَّا يُعلَم أنَّه باطلٌ؟ ولو لم يكن في هذا إلا معارضتُه لسائر الأحاديث التي تقتضي التسوية بين جميع الناس في ذلك الإقرار (١).

وأمَّا قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: ٨٢]، إنَّما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم، لم يقُلْ سبحانه: إنَّهم حين العهد الأول أسلموا طوعًا وكرهًا. يدلُّ على ذلك أنَّ ذلك الإقرار الأول جعله الله تعالى حُجَّةً عليهم عِند مَن يُثبِته، ولو كان فيهم مكرَهٌ لقال: لم أقُلْ ذلك طوعًا بل كرهًا، فلا تقوم به عليه حجةٌ.

قلت: وكذلك قوله (٢): «إنَّهم أقرُّوا على وجه التَقيَّة» كلامٌ باطلٌ قطعًا، فإنَّ التقيَّة: أن يقول العبد خلاف ما يعتقده لاتِّقاء مكروهٍ يقع به لو لم يتكلَّم بالتقيَّة، وهم لم يكونوا يعتقدون أنَّ لهم ربًّا غير الله حتى يقولوا تقيةً: أنت


(١) جواب «لو» محذوف لدلالة السياق عليه، أي: لكفى ذلك دليلًا على عدم صحته.
(٢) أي: قول السدِّي في الأثر المذكور.