للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومهما يكُن أحدُ القَولين هو الصَّواب، فكِلا قائلَيْه من أهل العلم قد أصابَ المنهجَ الصَّحيح، بسلوكهم لسبيل الجمعِ والتَّرجيح بين أدلَّة الباب، بدلَ الإقدامِ على خطيئة الطَّعنِ في البابِ جملةً.

وأمَّا عن التَّعارض الثَّاني: في دعوى (رشيد رضا) أنَّ بعضَ الرِّوايات تُصرِّح بأنَّه يكون مع الدَّجال جبالٌ من خبزٍ ونهر أو أنهار من ماء وعسل .. إلخ، في حين أنَّ ما رواه الشَّيخان من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ينفي ذلك عنه، حيث قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم: لأنَّهم يقولون إنَّ معه جبل خبزٍ ونهر ماء، فقال صلى الله عليه وسلم: هو أهون على الله مِن ذلك.

فجوابه: سائرٌ على منوالِ ما سبق تقريره مِن الجواب على دعوى التَّعارض قبله، ذلك أنَّ «إعمالَ الدَّليلين أَوْلَى مِن إهمالِها» (١)، ثمَّ التَّرجيح إن استحكَم العجز عن الجمع، وقد سبق تقريره.

فنقول: إنَّ قولَه صلى الله عليه وسلم: «هو أَهْوَن على الله مِن ذلك» مُحتمل مَعنَيْين:

المعنى الأوَّل: أَنَّ الدَّجالَ أهونُ مِن أن يُجرِيَ الله على يديه هذه الخوارق؛ وإنَّما هو تخيِيل، وسِحرٌ يَسحر به أعينَ النَّاس.

وهذا المعنى اختاره الطَّحاويُّ في تفسيرِ الحديث (٢)، فقَرَّر أنَّ ما يُظهِره الدَّجال ليس إلَّا تخييلًا ومَخْرَقةً لا حقيقةَ تحتها، واستدلَّ تأييدًا لذلك بحديثِ أبي الزُّبير عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: « .. ثمَّ يأمرُ السَّماءَ فتُمطر فيما يَرى النَّاس، ويقتلُ نفسًا ثمَّ يحييها فيما يَرى النَّاس» (٣).

وعلى الطَّريقة نفسِها في الجمعِ سارَ ابن حبَّان البُستي، فقرَّر أنَّ «إنكارَ المصطفى صلى الله عليه وسلم على المغيرة بأنَّ مع الدَّجال أنهار الماء، ليس يُضادُّ خبرَ


(١) انظر «تشنيف المسامع» للزركشي (٣/ ٤٩٢)، و «شرح المحلي على جمع الجوامع ـ مع حاشية العطار» (٢/ ٦٦).
(٢) انظر «شرح مشكل الآثار» (٢/ ٤٢٤).
(٣) أخرجه الطَّحاوي في «شرح مشكل الآثار» (١٤/ ٣٨١، رقم:٥٦٩٤)، وأحمد في «المسند» (٢٣/ ٢١١، رقم: ١٤٩٥٤)، والحاكم في «المستدرك» (٣/ ٤٢٣) وصَّححه.

<<  <  ج: ص:  >  >>