للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القسم الثَّاني: دَلالة السِّياق.

فالسِّياق بمفردِه قد ينقُل الدَّلالة مِن الاحتمال الَّذي يكتنفها إلى النَّصيَّة، فهو «مُرشد إِلى تبين المجمَلات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات» (١)، وإنَّ مِن خُلْفِ القول، وفسادِ الرَّأي: إغفالُ هذه الدَّلالة؛ لتمهيد الطَّريق بعدُ للادِّعاء بأنَّ الآية ليست نَصًّا في إثبات رفع عيسى عليه السلام -كما سبقَ زعمُه مِن شلتوت- (٢)، وهذا القول مَبْنيٌّ على النَّظر في وَضْع الصِّيغ المُجرَّدة مَقطوعةً عن سياقاتها، وهذا ليس مِن نهج المتحقِّقين بالأصول.

يقول أبو المعالي الجويني (ت ٤٧٨ هـ):

«اِعتقدَ كثيرٌ من الخائضين في الأُصول عزَّة النُّصوص، حتَّى قالوا: إنَّ النَّصَّ في الكتاب قَولُ الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١]، وقولُه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} [الفتح: ٢٩]، وما يظهر ظهورهما! ولا يكاد هؤلاء يسمَحون بالاعترافِ بنَصٍّ في كتاب الله تعالى وهو مرتبط بحكم شرعيٍّ، وقضوا بِنُدُورِ النُّصوص في السُّنة، حتَّى عَدُّوا أَمثلةً معدودةً ومحدودةً ... وهذا قولُ مَن لم يُحِط بالغَرض من ذلك.

والمقصود من النُّصوص: الاستفادةُ بإِفادة المَعاني على قَطْعٍ، مع انحسَامِ جهاتِ التَّأويلاتِ، وانقطاعِ مَسلكِ الاحتمالات؛ وإنْ كان بعيدًا حُصُولُه بوضع الصِّيغ رَدًّا إلى اللُّغة، فما أكثرَ هذا الغَرَض مع القرائن الحاليَّة والمَقاليَّة! وإذا نحن خُضنا في باب التَّأويلات، وإبانة بطلانِ معظمِ مَسالك المؤوِّلين .. : استبانَ للطَّالب الفَطِنِ، أنَّ جُلَّ ما يحسبه النَّاسُ ظواهرَ مُعرَّضةً للتَّأويلات: هو نصوصٌ» (٣).

فسِياق الآيتين دَالٌّ على ثبوت رفعِ عيسى عليه السلام رَفْعًا حِسيًّا؛ لا محيصَ عن ذلك لِمن أَنصفَ، وذلك مِن وجوه:


(١) انظر «الإمام في بيان أدلة الأحكام» للعز بن عبد السلام (ص/١٥٩).
(٢) انظر «نزول عيسى» لمحمود شلتوت (ص/٣٦٣)، مجلة الرسالة العدد (٤٩٦) (السنة الحادية عشرة ذو الحجة ١٣٦١).
(٣) «البرهان في أصول الفقه» (١/ ١٥١).

<<  <  ج: ص:  >  >>