أمَّا الوجه الأوَّل: فإنَّ سِياقَ الآيات هو في بيان بُطلانِ ما افتراه اليهود مِنْ قَتْلِهِ عليه السلام؛ بأنَّ القتلَ إنَّما وَقع على شَبيهِه، فلِذا عَقَّب الرَّبُّ تعالى على قوله:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} بقولِه تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}.
وهذا نَصٌّ في الرَّفْعِ الحِسِّيّ لا مَحالة؛ لأنَّ الإيقاف بـ (بل) هنا الَّتي تفيد الإضرابَ والإبطال، هو لنِفْيِ ما ظنَّ اليهود مِن تسلُّطهم على نبيِّ الله بالقتل، فيكون ما بعد (بل) مُنافيًا لما قبلها، بتكريرِ عدمِ تمكينِ الله لهم مِن التَّسلُّط على نبيِّه؛ وذلك برفعِه رفعًا حِسِّيًا، ولو كان المرادُ رَفعَ المكانةِ، لاختلَّ بذلك النَّظْمُ القرآنيُّ؛ لأمرين:
الأوَّل: أنَّ رفْعَ المكانةِ ليس مُختصًّا بعيسى عليه السلام في هذا المَوقف! فلا وجهَ لتخصيصِه به هنا؛ إلَّا لتضمُّنِه معنىً زائدًا ناسبَ ذلك إضافته إليه.
الثاني: أنَّ القتلَ لا يُنافي رَفعَ المكانةَ، إذ رِفعة المكانة حاصلةٌ حتَّى مع تقديرِ قتلهِ عليه السلام، فلا معنى حينئذٍ لدخول (بل) بينهما، لانتفاء التضادِّ بينهما.
وأمَّا الوجه الثَّاني: فهو أَنَّ وصْلَ {رَّفَعَهُ اللَّهُ} بـ {إِلَيَّ}: يَقضي على احتمالِ كونِ المقصُودِ بـ (الرَّفعِ) هنا رفعَ المكانة، وعِلَّةُ ذلك: أنَّ رَفع المكانة لا مُنْتَهى له؛ بخلاف الرَّفع الحسِّي! وهذا ظاهر في قوله تعالى:{وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، حيث أُضيفَت (إلى) إلى ضمير المُتكلِّم (الياء).
فإن قيل: المقصود إذن بالرَّفع هنا رفع (روحِه) لا غير!
قيل: أنَّ هذا التَّأويل ليس على السَّنَن المَحمود أيضًا، وبيان ذلك:
أنَّ تعيينَ الرَّفع هنا بأنَّه بالرُّوح لا يُزيل شبهةَ قتْلِ عيسى عليه السلام الَّذي سِيقت لأجلِه الآيات؛ لبقاءِ الشُّبهةِ بأنَّ ارتفاعَ الرُّوح إنَّما وقع بعد القتل! فلا معنى للإتيانِ بـ (بل) النَّافية لما قبلها مِنْ ظَنِّ تسلُّطِهم عليه، هذا مِن جهة.
ومِن جهةٍ أخرى: أنَّ تعيينَ الرَّفعِ (بالرُّوح) زيادةٌ لم يَنطِق بها النَّص، وتَقْديرٌ لم يَدُلَّ عليه المَقَامُ، فالأَصْلُ في كلام المُتَكلِّم أَنَّ ألفاظَه تامَّةٌ، والقول بأنَّ الكلام يفتقر إلى تقدير شيءٍ دعوى لا يُصار إليها إلَّا ببرهان واضح.