للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول البَغوي: «مَذهب أهل السُّنة أنَّ لله عِلمًا في الجمادات وسائرِ الحيوانات سِوى العقلاء لا يَقف عليه غيره، فلها صلاةٌ وتسبيحٌ وخشيةٌ؛ كما قال جلَّ ذكره: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: ٤٤] ... فيجِب على المرءِ الإيمان به، ويَكِلُ علمَه إلى الله تعالى» (١).

وما يُقال في مثل التَّسبيحِ والخَشْيةِ يُقال في السُّجود أيضًا؛ في مثل قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} [الحج: ١٨].

فقد نَصَّت هذه الآية على نسبةِ السُّجود إلى هذه المخلوقات، ومنها الشَّمس، ومَن فسَّره بأنَّه سجود مَجازيٌّ يُراد به الافتقارُ الدَّائم للرَّب تبارك وتعالى، ونفوذُ مشيئته فيها، وقَصَر تفسيرَه على هذا المعنى: فإنَّ هذا التَّفسير منه باطل؛ فإنَّ هذا الوَصفَ لا تَنفكُّ عنه هذه الكائنات، بل هي في جميعِ حالاتِها ملازمةٌ للافتقار، منفعلةٌ لمشيئةِ الرَّبِ وقدرتِه (٢).

والدَّلائلُ السَّابِقَةُ تدلُّ على أَنَّ السجود فِعلٌ لهذه المخلوقات -بما فيها الشَّمس- لا أنَّه اتِّصال؛ وإلَّا لمَا قسَّم السُّجود إلى طَوع وكَره، فلو كانت لا فعلَ لها، لمَا وُصِفت بطوعٍ منها ولا كُرهٍ (٣).

وهذا السُّجود من الشَّمس وغيرها مِن الجماداتِ، لا يَلزم منه أن يكون على هيئة سجود البَشر، بل هو خضوع منها للربِّ يُناسِب حالَها (٤)، وهو فِعْلٌ لها يقع منها في بعضِ الأحوال، مع دوامِ افتقارِها وخضوعها للربِّ تبارك وتعالى، لنفوذ مشيئته فيها.

وكذا سجود هذه الشَّمس تحت العرش هو سجود مَخصوصٌ يُناسبها، وهذا السُّجود لا يَلزم منه سَلْب الخضوعِ والافتقارِ الدَّائم الَّذي تشترك فيه مع بقيَّة


(١) «معالم التنزيل» للبغوي (ص/٣٩).
(٢) انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٨٠٩).
(٣) انظر «رسالة في قنوت الأشياء كلها لله» لابن تيمية (١/ ٣٤ - ٤٤ ضمن جامع الرسائل).
(٤) «رسالة في قنوت الأشياء كلها لله» (١/ ٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>