للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيبحثون -مثلًا- في التَّكييف الفقهيِّ لمِن قَتَلَ بسحرِه، وفي حكمِ السَّاحر مِن جهةِ ارتدادِه وكفرِه؛ فلو لم يكن للسِّحرِ حقيقة إلَّا مجرَّد التَّمويه على العَيْنِ، ما خُصَّ بهذه الفروعِ كلِّها.

فالمُشاحةُ بعدُ في وجود السِّحر وإنكارُه، أعدُّه مخالفةً لمقتضى الضَّرورة الحِسيَّة، مِمَّأ لا يُماري فيه في بلدِي المغرب بخاصَّة إلَّا مُتحَجِّر الرَّأسِ بَليد القلبِ! لكثرةِ ما يُعانيه النَّاس مِن حثالةِ السَّحَرةِ والمشعوذين وآثارِهم القبيحةِ في بيُوتاتهم؛ طهَّر الله بلدَنا وسائر بلاد المسلمين من رجسِهم، وأراحَ العبادَ مِن شَرِّهم.

يقول أَبو العبَّاس القرطبي: «هو أَمرٌ مَقطوعٌ به بإخبار الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم عن وجوده ووقوعه؛ فمن كذَّب بذلك فهو كافرٌ (١)، مُكِّذبٌ لله ولرسوله، منكرٌ لما عُلِمَ مُشاهدةً» (٢).

وقد تعجَّب قديمًا ابنِ قُتيبة (ت ٢٧٦ هـ) مِن قالةِ مَن يَنفِي حقيقة السِّحر فكان يقول: «إنَّ الَّذي يَذهب إلى هذا مُخالفٌ للمسلمين، واليهود، والنَّصارى، وجميع أَهل الكتاب، ومخالفٌ للأمم كلِّها: الهندِ -وهي أَشدُّها إِيمانًا بالرُّقى- والرُّوم، والعَرب في الجاهليَّة والإِسلام .. » (٣).

فلأجل ما تأكَّد من دلائل تحقُّق السِّحر، وحملًا لكلامِ أئمَّة الإسلام على أحسن المَحامل: يرجح عندي أنَّ ما حُكِي عن أبي حنيفة مِن إنكارِ حقيقة السِّحرِ قصدُه منه: إنكار أن يكون للسِّحر حقيقة مِن جِهة تغيير الأعيانِ واستحالتِها! كأنْ يحوِّل السَّاحرُ العِصِيَّ أفاعيَ حَقيقةً تأكل وتشرب، بل لا يفعل هذا إلَّا تخيِيلًا؛ فإنَّ أبا حنيفة لم يثبت عنه نفي مُطلقِ الحقيقةِ والتَّأثيرِ الحِسِّي للسِّحر؛ والله أعلم.


(١) إلَّا أن يمنع الحكم فيهم أحد موانع التَّكفير، كالتَّأويل الَّذي هو حال جملةِ المعتزلة ومن تأثر بهم في مقولتهم.
(٢) «المفهم» (٤/ ٥٦٩).
(٣) «تأويل مختلف الحديث» (ص/٢٦١).

<<  <  ج: ص:  >  >>