للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومِمَّا يعضد هذا القول عن أبي حنيفة: أنَّه مع ما نُقِل عنه من حكاية نَفيه لحقيقٍ السِّحر، فقد نُقِل عنه إثباتُ حقيقةٍ للسِّحر أيضًا (١)! بل جَعَل أئمَّةٌ من الأحنافِ هذا النَّقل الثَّاني مَذهبَ أصحابِهم (٢)؛ ومن أهلِ التَّحريرِ مِن مَذهبهم مَن سبق إلى تخريج كلامِ أبي حنيفة على ما رجَّحناه؛ إذ كان أَوْلى مِن نسبةِ إمامٍ جَليلٍ مثلِ أبي حنيفةَ إلى مُناقضةِ الأدلَّة الشَّرعيَّة، وخرمِ الإجماعِ، ومُكابَرةِ الحِسِّ.

ترى شاهد هذا التَّوجيه في مثل قول أنور شاه الحَنفيُّ (ت ١٣٥٣ هـ): «إنَّ السِّحرَ له تأثير في التَّقليب مِن الصِّحة إلى المرض، وبالعكس، أمَّا في قلب الماهيَّة فلا، وما يتراءى فيه مِن قلب الماهيَّة لا يكون فيه إلَّا التَّخييل الصِّرف، قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: ٦٦]؛ فلم تنقلب الحِبال إلى حَيَّات، ولكن خُيِّل إليه أنَّها انقلَبَت، وهذا ما نُسِب إلى أبي الحنيفة أنَّ في السِّحر تخييلًا فقط، ولا يريد به نفيَ التَّأثير مطلقًا، فإنَّه مَعلوم مَشهود، بل يريد به نفيَ التَّأثير في حقِّ قلبِ المَاهيَّات» (٣).

وهذا الَّذي اطمأنت إليه نفسُ الماورديِّ (ت ٤٥٠ هـ) (٤) أن ينسبه إلى أبي حنيفةَ، حيث قال: «قد اختلفَ النَّاسُ فيها -يَعني في حقيقةِ السِّحر-، فالَّذي عليه الفقهاء، والشَّافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وكثير مِن المتكلِّمين أنَّه له حقيقةً وتأثيرًا .. » (٥).


(١) انظر «التوضيح» لابن الملقن (٢٧/ ٥٣٦).
(٢) انظر «النهر الفائق» (٣/ ٢٥٤)، و «الدُّر المختار» (١/ ٤٤).
(٣) «فيض الباري» (٤/ ٢٩٣).
(٤) علي بن محمد حبيب، أبو الحسن الماوردي: ولد في البصرة، وانتقل إلى بغداد، قد ولي القضاء في بلدان كثيرة، ثم جُعل رئيس القضاة في أيام القائم بأمر الله العباسي، وكان يميل إلى مذهب الاعتزال! نسبته إلى بيع ماء الورد، ووفاته ببغداد؛ من أشهر كتبه: (أدب الدنيا والدين)، و (الأحكام السلطانية)، انظر «الأعلام» للزركلي (٤/ ٣٢٧).
(٥) «الحاوي الكبير» (١٣/ ٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>