للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الموقف الثَّاني: استنكارُ هذه الآيات الحسيَّة:

حيث ذَهَبت طائفةٌ مِن المُستغرِبين إلى رَدِّ ما وَرَد من أخبارِ مُعجزاتِ النَّبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء، أمَّا الآيات القرآنيَّة فارتكَبوا كلَّ عَسِرٍ لنفْيِها، ولَيِّ أعناقِ النُّصوص الَّتي تُثْبِتها (١).

وكان الباعث لكثيرٍ منهم على ذلك: تأثُّرُهم البيِّن بالمَنهج الوَضْعيِّ، الَّذي ينطلِقُ أَساسًا مِن نَفي الغيبيَّات، واستبعادِ كلِّ ما لا يَقع عليه الحِسُّ؛ فأرباب هذا المذهب حين تَوهَّموا أنَّ قيام الحضارةِ الغَربيَّة الكافرة لم يَتحقَّق إلَاّ برَفْضِ كلِّ ما يَتعدَّى الواقع الحِسِّي، افترضوا بالقِياسِ أنَّ المسلمين لا يمكنهم اللَّحاقُ برَكْبِ الحضارةِ الغربيَّة إلَّا باقتفاءِ سَنَن مَن استحدثَها حذو القذَّة بالقذَّة!

والأَساسُ الَّذي يرتكزُ عليه المنهج الوَضعيُّ الَّذي تَأثَّر به طوائفُ مِن المسلمين في رَدِّ الآياتِ الحِسيَّة النَّبويَّة ثلاثُ معارضات:

المعارضة الأولى: أنَّ العِلم التَّجريبيَّ لا يستطيع إثباتَها، وإِذا كان الأمر عندهم كذلك، فليست هذه الآيات والبَراهين حَقائقَ علميَّة تَستدعي الإيمان بها، ولا بِمَن جاءتْ على يَدَيه.

فالشُّبهة -إذن- مَبناها على منع الاعتدادِ بما لا يَمرُّ عبرَ قناةِ الحِسِّ والتَّجربة؛ فلا سَبيل إلى المعرفةِ إلَّا مِن بوابة الواقع الحِسِّي؛ قد ألغوا أَيَّ حقيقةٍ تُجاوز عندهم الواقع، فإنَّ للطَّبيعة قوانينها الثَّابتة التي تُفسِّرُها، والَّتي لا يُمكن في تَصوُّرِهم أَن تَتَغيَّر أَو تُخرَق، مع تجويزِهم ما دون ذلك ممَّا يُعَدُّ انحرافًا عارِضًا عن جَوهر الطَّبيعة، من غيرِ أن يصلُ إلى حَدِّ خَرْقِ السُّنَن، كـ «العادات غير العقلانيَّة والجَرائم» (٢).


(١) انظر بعضًا من تأويلاتهم المستكرهة: فيما نقله عنهم رشيد رضا في «تفسير المنار» (١/ ٢٦١) عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}.
(٢) انظر «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» لـ د. عبد الوهاب المسيري (١/ ٢٩١).

<<  <  ج: ص:  >  >>