للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد أمكنَ لمثل هذه المعارضةِ أن تجد مَحلًّا وسيعًا من نظر العقول لو أنَّ تلك المُعجزاتِ الحسيَّة كانت مَقدورةً للنَّبي صلى الله عليه وسلم لذاتِه، مَأتيةً مِن عند نفسِه؛ أما وهي ممَّا قد أجراه الله تعالى وحده على يَدَيه بإذنِه ليُقيم الدَّليل بها على صدقِه، وليس لنبيِّه فيها يَدٌ ولا مَشيئة: فاستشكالُ الآياتِ بعد هذا -فضلًا عن استنكارِها- ساقطُ الاعتبارِ.

تأمَّل ما جاء على لسان النَّبي صلى الله عليه وسلم نفسِه من نسبةِ ما جرى على يَدَيه من بعضِ الآيات إلى إيجادِ الله وتسخيره، من حالِه مسافرًا وقد قلَّ الماء مع أصحابه، فقال: «اطلُبوا فضلةً مِن ماء»، فلمَّا جاءوا بإناءٍ فيه ماء قليل، أدخل يده فيه، ثمَّ قال: «حيَّ على الطَّهور المبارك، والبركةُ مِن الله»، يقول ابن مسعود: فلقد رَأيتُ الماءَ ينبُع مِن بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم (١)!

يقول العينيُّ في قوله صلى الله عليه وسلم: « .. والبَركةُ مِن الله»: «إشارةٌ إلى أنَّ الإيجاد من الله» (٢).

وكذا جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال:

«سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى نزلنا واديًا أفيحَ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجتَه، فاتَّبعته بإداوةٍ من ماء، فنَظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرَ شيئًا يستتر به، فإذا شجَرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذَ بغصنٍ مِن أغصانها، فقال: «اِنقادي عليَّ بإذن الله»، فانقادت معه كالبَعير المخشوشِ الَّذي يصانع قائده، حتَّى أتى الشَّجرة الأخرى، فأخذَ بغصنٍ من أغصانها، فقال: «اِنقادي علي بإذن الله»، فانقادت معه كذلك، حتَّى إذا كان بالمنصف ممَّا بينهما، لأَمَ بينهما، فقال: «اِلتَئِما عليَّ بإذن الله»، فالتأمتا .. » الحديث (٣).

فمَنشأ غَلَطِ أصحابِ هذا المنهج: قياسهم الفاسد لأحكام النُّبوة على سائر النَّاس؛ مع تحقُّق الفَرق بينهما بمقتضى النَّقل والعقل، فأدَّاهم إلى جحود ما


(١) أخرجه البخاري في (ك: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم: ٣٥٧٩).
(٢) «عمدة القاري» (١٦/ ١٢٣).
(٣) أخرجه مسلم في (ك: الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر، رقم: ٣٠١٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>