للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا دعوى (رشيد رضا) في المعارضة الثَّانية: أنَّ هذه الأحاديث مُعارِضةٌ للقرآن الَّذي دلَّ بالقطعِ على امتناعِ إرسالِ الآياتِ الحسيَّة، لأجل أنَّ التَّكذيب بها مُوجِبٌ لتعجيل العذابِ .. إلخ؛ فجوابه:

أنَّ المعترض بمثل هذه الشُّبهة مُلزَم بخِيارين لا ثالث لهما:

أولاهما: أن علماءَ الإسلامِ اجتمعوا على ضلالةٍ حين اتَّفقوا على إثباتِ انشقاقِ القَمر آيةً للنَّبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في ذهولٍ عمَّا اهتدى إليه هو مِن استحالةِ ذلك له!

ثانيهما: أن تكون تلك الآيات الَّتي استدَّل بها المعترض غيرَ قطعيَّة الدَّلالة على نفيِ تلك الحادثة، وأنَّ معناها لا يَتعارض معها حقيقةً، لانفكاكِ الجِهة.

ولا ريبَ أنَّ هذا الخيار الثَّاني هو الواجب التَّسليم له، فإنَّ مُشركي قريشٍ في ما ساقه المعترض مِن الآيات: إنَّما طَلَبوا مِن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم آياتٍ حِسيَّةً بعينِها تَدُلُّ عندهم على صِدقِه، طلبوا ذلك تعجيزًا له ومعاندةً، فلم يُستجَب لهم، حتَّى لا يُعجَّل لهم العذاب، كما عُجِّل لمن قبلهم من الأُمَم السَّابقة ممَّن كابروا ما عَاينوه مِن الآياتِ، فهذه هي سُنَّة الله فيمَن اقترحَ آياتٍ ثمَّ كفَر بها مُستهترًا بعِنادٍ، والمُراد مِن قول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} [الإسراء: ٥٩].

ففي أسلوب الآيةِ حذف، والتَّقدير: فما مَنَعَنا أن نُرسِل بالآياتِ الَّتي اقترحوها إلَّا أن يُكذِّبوا بها كما كَذَّب الأوَّلون (١)، والمعنى: لو أرسلناها فكَذَّبتم، لأُهلكتم كما أُهلك أولئك (٢)، وعلى ذلك تكون (أل) في قوله: {بِالآيَاتِ} للعهدِ لا للجنسِ (٣).


(١) «الجامع في أحكام القرآن» للقرطبي (١٠/ ٢٨١).
(٢) انظر «كشف المشكل» لابن الجوزي (١/ ٢٩٢).
(٣) انظر «التحرير والتنوير» (١٥/ ١٤٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>