وبعد تحقيق القولِ في ثبوتِ إجماعِ السَّلفِ على وقوعِ الإسراء والمعراج بجسده صلى الله عليه وسلم، لم يَبْقَ إلَّا قطعُ سُوقِ الشُّبهاتِ بسَيفِ البراهين، فدونك بيانُ ذلك في الأجوبةِ التَّالية.
أمَّا جواب المعارضة الأولى: في دعوى أنَّ الهواءَ يُفقَد بعد أميالٍ فوق الأرض؛ وعلى هذا فلا يتأتَّى العيشُ لأحدٍ بعد انقطاع الهواء:
أنَّ حادثة الإسراء والمعراج وإن جَرى فيها مِمَّا هو خارج عن مَقدور الثَّقلين؛ ليتمَّ بها نَصْبُ الدَّلائل على نُبوَّته صلى الله عليه وسلم: إلَّا أنَّها ليست مُخالفةً لبدائِه العقلِ البتَّة، والعقل لا يَستعصي عليه تَصوُّر ذلك، فمَن خَلَق الإنسان مُفتقرًا إلى الهواء؛ قادرٌ على أن يجعَلَه مُستغنيًا عنه، وإِنَّما لعَدَم مُباشرةِ الحِسِّ لمثلِ ذلك، تراه يُنكر كلَّ ما لا يَقع في دائرةِ إدراكِه، وهذا هو القصور بعينِه.
فالتَّكذيبُ بهذه الأحاديث لكونِها أثبتَت وقوعَ أمرٍ خارقٍ لمِا اعتاده البَشَر من مُقوِّماتِ مَعيشتِهم: يؤُول إلى الطَّعنِ في كمالِ قدرةِ الله تعالى والإيمان به؛ فإنَّ مثل هذا الاعتراضِ لا يكاد يصدرُ إلَّا ممَّن لا يؤمن بالله أو ويشكُّ في قدرته جل جلاله، فمثل هؤلاء يكون الخطاب معهم في تثبيتِ هذا الأصل، فإذا ثَبت ثبتَ لازمه (١).
أما قول المُعترضِ في الشُّبهة الثَّانية: إنَّ إثباتَ أخبارِ المِعراج يلزم منه تجويزُ الجهل على الله تعالى -تعالى الله عمَّا يقول الظَّالمون علوًّا كبيرًا- بما هو في مَقدرة عبادِه، وما ليس هو في مقدورهم .. إلخ:
فالجواب عن ذلك أن يُقال:
ليس في الحديث ما يَستلزم ذلك أبدًا؛ فليس في الخمسين صلاةً الَّتي فرضها الله تعالى على عبده وخليلِه محمَّد صلى الله عليه وسلم ما يكون في أدائِها استحالةٌ مِن جِهة تعذُّر قُدرةِ العبادِ على أدائها.