للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمَّا قول موسى عليه السلام في الحديث: «إنَّ أمَّتَك لا يستطيعون ذلك، فارجعْ إلى ربِّك، فاسأله التَّخفيف لأمَّتك .. »، فلا يُحقِّق مَطلوبَهم؛ ذلك أَنَّ نفْيَ الاستطاعةِ مِن موسى عليه السلام لا يُرادِفُ الاستحالةَ بحالٍ في هذا المقام، وإِنَّما مقصوده عليه السلام مَشقَّةُ ذلك على أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، برهان ذلك: أنَّه أطلق هذا اللَّفظ؛ حتَّى بعد صَيْرورة الصَّلاةِ مِن خمسين إلى خمس؛ فقال: «إنَّ أمَّتَك لا تستطيع خمسَ صلواتٍ كلَّ يوم» (١)!

يقول المُعَلِّمي: «كانت الصَّلاة قبل الهجرة رَكعتين رَكعتين؛ كما ثَبَت في الصَّحيح (٢)، فخمسون صلاةً مائةُ ركعةٍ؛ وليسَ أداءُ مائةِ ركعةٍ في اليومِ واللَّيلة بمستحيل، وفي النَّاس الآن مَن يُصلِّي نحو مائةِ ركعةٍ، ومنهم مَن يزيدُ، وفي تراجم كثير مِن كبار المسلمين: أنَّ منهم مَن كان يصلِّي أكثرَ مِن ذلك بكثيرٍ (٣)؛ بل إنَّ أداءَ مائةِ ركعةٍ في اليوم واللَّيلة ليس بعظيمِ المشقَّة في جانب الله عز وجل مِن الحقِّ، وما عنده مِن عظيم الجزاء في الدُّنيا والآخرة ...

فأمَّا الله تعالى؛ فالفرضُ في علمِه خمسُ صلواتٍ فقط؛ ولكنَّه سبحانه إذا أراد أن يرفعَ بعضَ عباده إلى مرتبةٍ، هَيَّأَ له ما يستحقُّ به المرتبة؛ ومن ذلك: أن يهيِّئ ما يَفهم منه العبدُ أنَّه مُكلَّفٌ بعمل مُعيَّن شاقٍّ، فيقبَل التَّكليف، ويستعدَّ لمحاولةِ الأداء، فحينئذٍ يُعفِيهِ اللهُ تعالى من ذلك العمل، ويكتبُ له جزاءَ قَبوله، ومحاولةِ الوفاء به، أو الاستعدادِ لذلك: ثوابَ مَن عمِلَه، ومِن هذا القبيل قصَّة إبراهيم عليه السلام في ذبحِ ابنه.

وأمَّا محمَّد صلى الله عليه وسلم فكان يعلم أنَّ الأداء ممكِنٌ -كما مَرَّ-، وكان في ذلك المقام الكريم مُستغرقًا في الخضوعِ والتَّسليم، ووَفَّقه الله عز وجل لقبولِ ما فهمه في


(١) «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٣٨٥ - ٣٨٦).
(٢) أخرجه البخاري في (ك: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء، رقم: ٣٥٠)، ومسلم في (ك: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، رقم: ٦٨٥).
(٣) كما تراه -مثلًا- في «مناقب الإمام أحمد بن حنبل» لابن الجوزي (ص/٣٨٢) بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: «كان أبي يُصلِّي في كلَّ يوم وليلة ثلاث مئة رَكعة، فلمَّا مَرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يُصلِّي كلَّ يوم وليلة مئة وخمسين ركعة، وقد كان قُرب من الثَّمانين».

<<  <  ج: ص:  >  >>