للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِن عَداوتِهم وسابقِ قتالِهم للمسلمين، مع ما انضافَ إلى ذلك مِن عَزمِهم على حربِه في المدينةِ، وتأليبِ حُلفائِهم على ذلك.

فاقتضتِ الحكمة حينئذٍ مُباغَتَة مَن تَعَدَّى على المسلمين بالقَتلِ في ما مضى، ورَدْعَ من تهيَّأ لحربِهم في ما يُستقبَل، في صورةٍ مَشروعةٍ مِن صُوَر الدِّفاعِ الهجوميِّ، أو ما يُسمَّى في علم العسكريَّة: بالحربِ الوِقائيَّة (١).

إنَّه لحَقيقٌ على المسلمين أن لا يَنزِلوا بأَحَدٍ مِن العدُوِّ في الحصونِ مِمَّن يَطمعون به ويَرجون أن يستجيب لهم إلَّا دَعَوه -كما قال مالك- فأمَّا مَن إن جَلَسنا بأرضِنا أَتَونا وألَّبُوا علينا، وإنْ سِرْنا إليهم قاتلونا، كشأنِ بني المُصطلِق: فإنَّ هؤلاء لا يُنذَر مثلُهم بالدَّعوةِ ولا كرامة (٢).

ولو كان النَّبي صلى الله عليه وسلم طَمِع في إذعانِهم لكان دَعَاهم، وهو مع ذلك لم يقتُل منهم إلَّا مَن أصرَّ على القتالِ، كما جاء به نصُّ الحديث (٣)! وأحسنَ معاملةَ مَن أَسَرَ منهم، حتَّى أذعنوا بعدُ للإسلامِ عن بَكرةِ أبيهم، وكانوا يُؤَدُّون الزَّكاة له (٤).

وبهذا يَتبيَّن لنا مَقصود نافعٍ بحديثِه الأوَّل:

أنَّه لبَيانِ جَوازِ مُباغتةِ العَدُوِّ، بما يعني بلوغ الدَّعوة قبلُ فرفضوها؛ ولم يعنِ نافعٌ أنَّ المُغارَ عليهم لم تَبلغهم قطُّ! ولا خَطَر ببالِه أنَّ التَّبليغ مَنسوخٌ وُجوبُها بالمرَّة ولو لم تبلغهم!

فمَن ذا يجرُؤ على قولِ مثل هذا إلَّا جاهل بأصولِ الدِّين، فضلًا عن فروعِه؟!

إنَّ استشهادَ نافعٍ على جوابِه بما جَرَى لبني المُصطلقِ لكونهم أوضحَ شاهدٍ استحضَرَه في جوابه لتلك المسألة، إذ كانوا قَرِيبي ديارٍ مِن المدينةِ، وكان قتالهم


(١) انظر «المدرسة العسكرية الإسلامية» لمحمد فرج (ص/١٧٦)، و «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (١/ ٤٩١).
(٢) انظر «المدوَّنة» (١/ ٤٩٦).
(٣) انظر «إرشاد الساري» للقسطلاني (٤/ ٣١٨).
(٤) كما في «مسند أحمد» (رقم: ١٨٤٥٩) وقال مخرِّجوه: «حسن بشواهده».

<<  <  ج: ص:  >  >>