للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا قوله (إنَّ الآخرة دار جزاء): فلا شكَّ أنَّها دار جزاء، ولا ينافي التَّكليف في عرصاتها قبل دخول الجنَّة أو النَّار، .. وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم: ٤٢]، .. وفي الصَّحيحين في الرَّجل الَّذي يكون آخر أهل النَّار خروجًا منها: أنَّ الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألَّا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرَّر ذلك مرارًا ..

وأمَّا قوله: (كيف يكلِّفهم دخول النَّار، وليس ذلك في وسعهِم): فليس هذا بمانع مِن صحَّة الحديث، فإنَّ الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصِّراط، وهو جسر على جهنَّم أحدُّ مِن السَّيف وأدقُّ من الشَّعرة، .. وليس ما ورد في أولئك بأعظم مِن هذا، بل هذا أطمُّ وأعظم!

وأيضًا فقد ثبتت السُّنة بأنَّ الدَّجال يكون معه جنَّة ونار، وقد أمر الشَّارع المؤمنين الَّذين يدركونه أن يشرب أحدهم مِن الَّذي يرى أنَّه نار، فإنَّه يكون عليه بردًا وسلامًا، فهذا نظير ذلك، وأيضًا فإنَّ الله تعالى قد أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسَهم، .. وذلك عقوبةً لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضا شاقٌّ على النُّفوس جدًّا، لا يَتقاصر عمَّا ورد في الحديث المَذكور» (١).

فهذه مذاهب العلماء في توجيه الأخبارِ الَّتي جاءت في تعذيبِ بعضِ أهلِ الجاهليَّة (٢)؛ والقول الأخير منها بامتحانِ أهل الفترة مِمَّن جهلوا الحُجَّة أسعدُها بتآلف الأدلَّة، وأذهَبُ «للخصومات الَّتي كرِه الخوضَ فيه لأجلها مَن كرهه، فإنَّ مَن قطع لهم بالنَّار كلِّهم، جاءت نصوص تدفع قولَه، ومَن قطع لهم بالجنَّة كلِّهم، جاءت نصوص تدفع قولَه» (٣).


(١) «تفسير القرآن العظيم» (٥/ ٥٨).
(٢) وثمَّة أقوال أخرى اجتهد بعض العلماء والباحثين في جمعها ممَّا يطول به المقام هنا، انظر «مسالك الحنفا» للسيوطي (ضمن الحاوي للفتاوي ١/ ٢٤٥)، و «إشكالية الإعذار بالجهل» لـ د. سلطان العميري (٢٧١ - ٢٧٨).
(٣) «درء تعارض العقل والنقل» (٨/ ٤٠١).

<<  <  ج: ص:  >  >>