للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومع رجاحة هذا المذهب على باقي الأقوال في مسألة أهل الفترة، يُشكِل عليه بعض الأحاديث الَّتي ورَدَت بإثباتِ عذابِ القَبر لبعضِ مَن ماتِ في الجاهليَّة، منها:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «دخل النَّبي صلى الله عليه وسلم يومًا نخلًا لبني النَّجار، فسمِع أصوات رجالٍ مِن بني النَّجار ماتوا في الجاهليَّة يُعذَّبون في قبورِهم، فخرج النَّبي صلى الله عليه وسلم فزِعًا، فأمَرَ أصحابَه أن يتعوَّذوا مِن عذاب القبر» (١).

ووجه الإشكال: أنَّ الحديث أثبتَ تحقُّقَ العذابِ لبعضِ أهلِ الجاهليَّة في قبورِهم قبل حصولِ الامتحانِ لهم يوم القيامة (٢)!

والجواب على هذا مِن وجهين:

الوجه الأوَّل: أنَّ الله لا يُعذِّب أهلَ الجاهليَّة على مُناقضةِ الأصولِ العَقديَّة فقط، فقد يُعذَّبون على مُنكراتٍ مِن الأفعالِ لا يجهلون قُبحَها فِطرةً وعُرفًا، كالظُّلمِ والاعتداءِ على حقوقِ الخَلْق.

شاهدُ ذلك: ما وَرَد في حديثِ جابر مِمَّا كُشِف للنَّبي صلى الله عليه وسلم فيه مِن عذابِ أهل النَّار مِن المَاضين، يقول: « .. حتَّى رأيتُ فيها صاحبَ المِحْجَن (٣) يجرُّ قَصبَه في النَّار، كان يسرق الحاجَّ بمحجَنِه، فإن فُطن له قال: إنَّما تعلَّق بمِحجَني، وإن غفل عنه ذهب به! وحتَّى رأيتُ فيها صاحبةَ الِهرَّة الَّتي ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل مِن خشاش الأرض .. » (٤).


(١) أخرجه أحمد في «المسند» (رقم:١٤١٥٢)، وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال مُخرِّجوه، وهو عند برقم (١٣٤٤٧) وفي سنن أبي داود (ك: السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، رقم: ٤٧٥١) من حديث أنس.
ومنهم مَن يستدل بهذا على ما ذهب إلى النووي وغيره من مآخذة أهل الجاهلية وتعذيبهم على شركهم، كالألباني في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٢٩٧).
(٢) «إشكالية الإعذار بالجهل» (ص/٢٧٦).
(٣) المحجن: عصا مُعقفة الرَّأس كالصَّولجان، «النهاية في غريب الحديث» (١/ ٣٤٧).
(٤) أخرجه مسلم في (ك: الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، رقم: ٩٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>